توقفت منذ فترة ليست بالقصيرة عن الاطلاع على البيانات والتصريحات والتحليلات السياسية وقت أن يكون هناك حدث سياسى عالمى أو إقليمى ذو ثقل أو أهمية وإن جاءت أمامى عن طريق الصدفة لا ألتفت إليها كثيراً، حيث لا ترتقى معظمها لما يفوق الشعارات الرنانة الجوفاء المُعدة للاستهلاك الإعلامى ليس إلا، ويكفينى فقط حينها أن أنظر إلى البيانات الاقتصادية ذات الصلة وما هو متعلق بها من أرقام لتتبين لى حقيقة الأوضاع.
وتجلى ذلك أمامى مُجدداً منذ يوم الخميس الماضى عقب تفجير ناقلتى نفط فى خليج عمان وإشارات إلى تورط الحكومة الإيرانية فى هذا الحادث انتقاماً من إعادة فرض العقوبات الاقتصادية عليها بما يمنعها من تصدير نفطها وما قالوه الإيرانيون عن أنهم سيوقفون خطوط إمداد النفط بأكملها إذا ما أجبرتهم العقوبات الأمريكية فى أساسها من بيع إنتاجهم.
وعلى الفور خرج بالطبع الرئيس الأمريكى دونالد ترامب بإحدى تصريحاته العنترية ليحمل إيران المسئولية عن الحادث وتنفى طهران وتتضامن كل من المملكة المتحدة والمملكة العربية السعودية مع ترامب وتحذر الخارجية الروسية من استغلال الحادث فى تصعيد المواجهة بالمنطقة ويخرج علينا المحللون السياسيون ليحدثوننا عن طبول الحرب التى يزعمون أنهم يسمعون دقاتها وتشتعل مواقع التواصل الاجتماعى بالتكهنات السطحية وما إلى آخر كل ذلك من لغط ساذج.
أقول لغط ساذج، لأن نظرة بسيطة على أسعار خام برنت القياسى كانت ستكفى لمعرفة أن كل تلك الضجة وإنما هى صناعة القنوات الإعلامية ذات التحيزات الواضحة من ناحية ويأتى كذلك على يد آلات الدعاية السياسية من ناحية أخرى، خاصة من الجانب الأمريكى حيث دخل ترامب الآن بالفعل مرحلة التفكير فى الانتخابات الرئاسية المقبلة بعدما أعلنت مجموعة من كوادر الحزب الديمقراطى المنافس له نية خوضها تلك الانتخابات.
ولكن أسواق النفط وهى بطبيعتها شديدة الالتصاق بدوائر صنع القرار السياسى تجاهلت الحدث نفسه بشكل شبهتام وكذلك ردود أفعال جميع الأطراف إلى حد كبير جداً، حيث أغلقت الأسبوع على انخفاض – نعم انخفاض – لسعر برنت بمقدار 1.16 دولار للبرميل أو بنسبة 1.83% من 63.29 دولار للبرميل فى نهاية الأسبوع قبل الماضى إلى 62.04 دولار فى نهاية الأسبوع المنقضى، أى ما بعد الحادث بيومين ثم انخفض إلى ما دون حاجز 62 دولار للبرميل فى افتتاح الأسبوع الحالى، وإن كان قد سجل يوم الخميس الماضى ارتفاعاً بمقدار 2.07 دولار من 59.97 دولار أى بنسبة 3.45% مقارنة بسعر يوم ما قبل الحادث مباشرة، إلا أن ذلك قد يدخل الجزء الأكبر منه فى إطار التذبذبات الطبيعية لسعر الخام فى الأسواق العالمية وليس أدل على ذلك أنه كان قد تعدى حاجز 74 دولاراً فى نهايات شهر أبريل الماضى ثم خسر حوالى 17.5% فى أقل من شهرين دون تفجيرات ولا أى أحداث أخرى غير طبيعية.
وظنى الشخصى أن هذا يعود إلى أحد عاملين أو إلى مزيج منهما وهو الاحتمال الأرجح:
يبدو أولاً أن المؤسسات الكبرى فى سوق النفط العالمى – وأؤكد مرة أخرى على مدى نفاذ هؤلاء إلى داخل الهياكل السياسية بالدول الكبرى – لا تتوقع فعلياً تصعيد الأمر لما يزيد عن الحرب الكلامية المعتادة وتعول كثيراً على فتور رد فعل الكتلة المتماسكة بالاتحاد الأوروبى وضعف موقف لندن، التى أعلنت تأييدها للولايات المتحدة، فى ظل الأزمة السياسية التى تعيشها بريطانيا بعد استقالة ثيريزا ماى وأيضاً ظهور نية روسية بلعب دور فعال فى هذه الأزمة، بالإضافة إلى الأرض التى أنشقت وظهر على سطحها الوسيط اليابانى الجديد وهو عنصر يصُعب توقع مسلكه لكونه يتدخل للمرة الأولى بشكل فعال فى الشرق الأوسط، وبالتالى لا يمكن تحديد توجهاته بشكل دقيق.
أما العامل الثانى فهو أن تكون الأسواق مطمئنة بدرجة ما لاستمرار الإمدادات النفطية بحجمها الحالى تقريباً فى ظل وفرة المخزون الأمريكى، بالإضافة إلى زيادة جدوى استخراج النفط الصخرى بعد تقدم تكنولوجيا الاستخراج وتمكنها من خفض التكاليف التى كانت فيما قبل عائقاً رئيسياً أمام زيادة الاعتماد عليه.
هذا بالإضافة إلى أن السعودية بصفتها أكبر المصدرين العالميين لم تصدر عنها أى إشارات بأن الموقف الأمنى بالنسبة لناقلات النفط فى أعالى البحار يسبب لها ولو الحد الأدنى من القلق فى خصوص الإمدادات، بل قال وزير الطاقة السعودى خالد الفالح، إنه يتطلع إلى تمديد اتفاق تخفيض الإنتاج فى اجتماع “الأوبك” الشهر المقبل.
ولو افترضنا جدلاً أن إيران هى فعلاً المتسببة فى حادث ناقلتى النفط، فهى بذلك لا تمثل توجه ثابت أو مستدام وإنما هى مجرد مناورة سياسية محدودة النطاق لاستطلاع مدى إصرار الموقف الأمريكى بخصوص العقوبات المفروضة عليها حالياً. أما تصور أن هذا الموقف قد يستنسخ نفسه لمرات ومرات، فهو طرح شديد الغباء وهو ما تعلمه الشركات العالمية الكبرى العاملة فى مجال النفط جيداً.
بقلم: محمد شيرين الهوارى
الخبير فى الاقتصاد السياسى