السياسات النقدية تبدو أشبه بصفقة خاسرة
مثل الأزمات الأخرى التى سبقتها، يبدو أن جائحة «كوفيد-19»، تبرز السمات المزعجة للاقتصاد العالمى، فعلى سبيل المثال، تظهر الاختلالات العالمى، التى انتعشت الآن رغم قمعها لفترة وجيزة عندما تفشى الوباء للمرة الأولى.
وسجلت الولايات المتحدة أكبر عجز تجارى لها منذ 14 عاماً فى أغسطس الماضى، رغم تحولها من كونها مستورد كبير للبترول إلى مُصدر فى ذلك الوقت.
والعجز المالى الأمريكى يقابله فائض متجدد فى الصين، حيث تعتبر بعض العوامل المؤقتة، مثل ارتفاع صادرات الصين من معدات الحماية الشخصية، المسئولة جزئياً عن هذا الأمر، لكن ثمة سبب يدعو للقلق من استمرار تلك التصدعات، مما يضيف عنصراً خطيراً إلى بيئة السياسة العالمية المشحونة بالفعل.
ووصلت أوجه الخلل العالمية إلى ذروتها الحديثة قبل اندلاع الأزمة المالية العالمية فى 2008، عندما بلغ المجموع المطلق لفوائض وعجز الحساب الجارى للدول أكثر من %5 من الناتج المحلى الإجمالى العالمى.
وكما دُفعت فجوات الحساب الجارى إلى نطاق أوسع جزئياً بفعل ما أطلق عليه خبراء الاقتصاد «تخمة الادخار العالمية»، والتى نتجت عن ارتفاع أسعار البترول ومستويات الادخار التحوطى لحكومات الاقتصادات الناشئة المستعدة لانعكاسات مفاجئة فى شهية المخاطر العالمية، إلا أن تلك الفجوات تراجعت فى العقد الذى أعقب الأزمة مع انخفاض أسعار البترول واتجاه الصين لإعادة توازن اقتصادها.
ومع ذلك، عشية تفشى الوباء، ظلت أوجه الخلل عند نحو %3 من الناتج المحلى الإجمالى العالمى، أى ما يقرب من مرة ونصف المرة من المستوى السائد فى بداية التسعينيات.
ومنذ ذلك الحين انفتحت الفجوات التجارية الهائلة فى بعض الأماكن، وقفز عجز الحساب الجارى الأمريكى، الذى بلغ %2 من الناتج المحلى الإجمالى نهاية عام 2019، إلى %3.5 من الناتج المحلى الإجمالى بعد 6 أشهر.
كما انتقل الحساب الجارى للصين من تسجيل فائض نسبته %1.1 من الناتج المحلى الإجمالى فى نهاية عام 2019 إلى عجز فى الربع الأول من عام 2020، قبل العودة إلى تسجيل فائض بنسبة %3.1 فى الربع الثانى.
وذكرت مجلة «ذى إيكونوميست» البريطانية أن فجوات الحساب الجارى ليست أمراً سيئاً فى حد ذاته، فالاقتصاد النامى الذى يحتاج إلى الاستثمار، على سبيل المثال، ربما يستهلك أكثر، مما ينتج لفترة من الوقت لحين بناء قدرته الإنتاجية، فضلاً عن الأدوات اللازمة لسداد الالتزامات الخارجية المتراكمة فى المستقبل، لكن فى بعض الحالات يمكن أن تكون مصدر أزمة إذا كانت تعكس تراكم نقاط الضعف المالية.
وأشارت المجلة إلى أن الاقتصادات تدير فوائض فى الحساب الجارى عندما تنتج أكثر مما تستهلك، وعندما يكون هناك قدر كبير من الطلب العالمى الكامن، يكون هذا الأمر هو الأكثر إزعاجاً بالنسبة للاقتصادات التى تعانى من عجز، والتى تتمتع باستهلاك أكبر مما تسمح به طاقتها الإنتاجية المحلية فقط.
ومع ذلك، عندما يكون الطلب ضعيفا، فإن الدول ذات الفائض تستنزف القوة الشرائية من الشركاء التجاريين عندما يكون لديها القليل من الموارد للادخار.
ومنذ الأزمة المالية العالمية، كانت أسعار الفائدة فى جميع أنحاء العالم الغنى قريبة من الصفر، مع بعض الاستثناءات الموجزة، كما اقتربت بعض دول العالم الناشئ من مستنقع الأسعار المنخفضة خلال العام الحالى.
وفى ظل هذه الظروف، يعتبر التوسع المالى، الذى يزيد المخزون العالمى من السندات الحكومية، وسيلة فعالة لتعزيز النمو الاقتصادى، سواء داخل الدولة المحفزة أو خارجها، فى حين أن العجز الضخم فى الحساب الجارى الأمريكى يعكس بشكل جزئى الاستهلاك القوى للسلع المنتجة فى الداخل والخارج، بدعم من الحوافز، لكن القرارات المتعلقة بالتيسير النقدى أصبحت أكثر صعوبة.
وأشارت «ذى إيكونوميست» إلى أن جزءاً من التعزيز، خصوصاً معدلات الفائدة المنخفضة، يأتى من انخفاض قيمة العملة، مما يساعد المصدرين على الحصول على حصة أكبر من إنفاق الشركاء التجاريين.
وفى فترة الثلاثينيات، قامت الدول، التى كانت على الطرف الخاسر من عمليات الاستيلاء على الطلب، بوضع هذه التعريفات الجمركية، مما أدى إلى تصاعد الحمائية وانهيار التجارة العالمية.
أما الآن، فيمكن للحوافز المالية الجريئة إنقاذ العالم من هذا المصير، لكن الحكومات أصبح لديها بالفعل إنفاق مجانى أقل مما كانت عليه فى الربيع.
ففى 6 أكتوبر، أنهى الرئيس الأمريكى دونالد ترامب، المحادثات بشأن جولة جديدة من التحفيز النقدى، فى حين تحدث وزير الخزانة البريطانى ريشى سوناك، فى اليوم السابق، عن الحاجة للسيطرة على المالية العامة، وبالتالى إذا تراجعت الحوافز المالية، فإن ذلك الأمر يترك التيسير النقدى يبدو على نحو متزايد وكأن محصلته صفر.
وساهم تعديل استراتيجية البنك الاحتياطى الفيدرالى، فى أغسطس الماضى، فى انخفاض الدولار مقابل اليورو، مما أدى إلى تفاقم مشكلة الانكماش فى أوروبا.
ومن جانبها، تضع الولايات المتحدة بعض الدول ذات الفائض فى مرمى النيران، فقد قامت، فى الثانى من أكتوبر الحالى، بفتح تحقيق فى تلاعب فيتنام بالعملة.
ويشير النمو السريع فى احتياطيات النقد الأجنبى لعدد من الاقتصادات الآسيوية، التى تحقق فائضاً، إلى أن الحكومات تتدخل لخفض عملاتها، كما يعتقد براد سيتسر، الزميل الأقدم فى مجلس العلاقات الخارجية ومقره واشنطن.
وفى هذا الصدد، أشارت المجلة البريطانية إلى أن إمكانية تكثيف التدقيق الأمريكى فى الصين إذا ظلت الاختلالات واسعة، فرغم انخفاض الدولار مقابل اليوان بنحو 5% منذ مايو، إلا أن ثمة بعض الأدلة التى تشير إلى أن الصين تصرفت بخبث لإبطاء وتيرة ارتفاع عملتها.
وكانت الخلافات التجارية فى الأعوام الأخيرة، من نواح كثيرة، رد فعل متأخر على الضغائن الاقتصادية السابقة، التى أشعلتها الاختلالات المستمرة، لكن لو استمر التوسع العالمى، ربما تلاشت تلك الخلافات، بل بدلا من ذلك يجد العالم نفسه مرتبطا مرة أخرى بالحقائق القاسية لاقتصاديات الكساد، وإذا لم يتم نزع فتيلها عبر المصلحة الذاتية المستنيرة والتعاون، يمكن أن تصبح الاختلالات بكل سهولة أساساً للصراع الاقتصادى.