أثارت الكاتبة سالينا زيتو تساؤلاً فى مقال بمجلة «ذا أتلانتك» عام 2016 عن كيفية التعامل مع تصريحات دونالد ترامب: هل يجب أن نأخذها حرفياً أم بجدية؟
اليوم، ومع عودة ترامب إلى السلطة لفترة ثانية، يبدو أن الإجابة باتت واضحة: يجب أن نأخذ تصريحاته وأفعاله بجدية أكبر وحرفية أكثر من أى وقت مضى.
يشير المحللون إلى أن ترشيحات ترامب الأخيرة تحمل دلالات واضحة على توجهاته المتشددة.
فاختيار روبرت كينيدى الابن وزيراً للصحة، وبيت هيجسيث وزيراً للدفاع، وتولسى جابارد رئيسة للاستخبارات الوطنية، ومات جيتس وزيراً للعدل، يعكس رغبة فى تبنى سياسات أكثر تطرفاً.
وحسب ما أوضحته صحيفة «فاينانشيال تايمز»، فإنَّ هذه التعيينات تشير إلى أن ترامب لن يكون نسخة مكررة من ولايته الأولى، بل سيكون أكثر راديكالية.
لطالما كانت التجارة أحد أبرز المجالات التى يلتزم فيها ترامب بمواقفه حرفياً وبجدية، فالحماية التجارية ليست مجرد معتقد شخصى قديم لديه، بل هى أساس سياساته الاقتصادية.
ومع ذلك، يبدو أن فريق ترامب يفتقر إلى فهم عميق لاقتصاديات التجارة، ما قد يؤدى إلى تداعيات خطيرة.
يرتكب ترامب خطأين رئيسيين فى رؤيته التجارية: أولاًـ عدم إدراكه مفهوم «الميزة النسبية»، وثانياًـ فشله فى فهم أن ميزان التجارة تحدده قوى العرض والطلب الكلية، وليس موازين العلاقات الثنائية بين الدول.
نتيجة ذلك، فإنَّ حربه الجمركية لن تقلل من عجز التجارة الأمريكية، بل قد تزيد التضخم، وتفاقم الصراعات مع مجلس الاحتياطى الفيدرالى، وتضعف الثقة بالدولار.
إذا أراد ترامب تعزيز الإنتاج المحلى على حساب الواردات، كما يطمح، فإنه بحاجة إلى توفير موارد إضافية.
ولكن من أين ستأتى هذه الموارد وكيف؟
أحد السيناريوهات المحتملة هو ارتفاع قيمة الدولار؛ نتيجة انخفاض الطلب على العملات الأجنبية لتمويل الواردات. لكنَّ ذلك سيؤدى إلى تراجع تنافسية الصادرات الأمريكية، ما يجعل التعريفات الجمركية بمثابة ضريبة مزدوجة على الواردات والصادرات على حد سواء.
يؤكد خبراء الاقتصاد، أن السياسات الكلية هى العامل الحاسم.
وكما يشير ريتشارد بالدوين من «معهد الإدارة الدولية»، فإنَّ ميزان التجارة يعتمد على الفرق بين الدخل والإنفاق الإجمالى، وطالما بقى هذا الفرق دون تغيير، سيظل ميزان التجارة ثابتاً.
تشير البيانات إلى أن الولايات المتحدة تنفق أكثر مما تكسب منذ أعوام، مع تدفق مستمر للمدخرات الأجنبية بمعدل 3.9% من الناتج المحلى الإجمالى بين 2021 و2024.
وكانت الحكومة الأمريكية هى الجهة الوحيدة التى تعانى عجزاً ضخماً، بلغ 6.7% من الناتج المحلى الإجمالى، بينما بلغ فائض الادخار على الاستثمار فى قطاع الأسر 2.3% من الناتج المحلى الإجمالى، و0.5% فى قطاع الشركات.
ولتقليل العجز التجارى، يجب على القطاعات المحلية زيادة الفوائض الادخارية، وهو أمر يتطلب تقليص العجز الحكومى الضخم.
رغم ذلك، تشير مقترحات ترامب إلى اتجاه معاكس، فقد وعد بتمديد التخفيضات الضريبية لعام 2017، وزيادة الخصومات الضريبية على مزايا الضمان الاجتماعى، وإعفاء الإكراميات من الضرائب، وخفض ضرائب الشركات إلى 15% للشركات الصناعية، كما يقترح ترحيل 11 مليون مهاجر غير شرعى.
هذه السياسات ستزيد من الطلب وتقلل من العرض، ما يؤدى إلى تضخم أكبر وعجز تجارى متفاقم. بالإضافة إلى ذلك، سيؤدى هذا إلى ضغط إضافى على مجلس الاحتياطى الفيدرالى للسيطرة على التضخم، مع استمرار الدين الفيدرالى فى الارتفاع، ما قد يهدد الثقة بالعملة الأمريكية.
باختصار، ليس هناك أى احتمالات لتقليل العجز التجارى الإجمالى بالسياسات التى يقترحها ترامب، فتقليل العجز الثنائى مع الصين سيؤدى فقط إلى زيادة العجز مع دول أخرى، وهذا أمر لا مفر منه، بالنظر إلى الضغوط الاقتصادية الكلية المستمرة.
علاوة على ذلك، فإنَّ سياسات ترامب التجارية التمييزية، التى تتضمن تعريفات بنسبة 60% على الصين و10% إلى 20% على الدول الأخرى، ستؤدى إلى تفاقم العجز مع دول جديدة؛ حيث ستتحول الواردات من الصين إلى دول أخرى.
وقد يضطر ترامب لفرض قواعد منشأ صارمة أو رفع التعريفات إلى 60% على جميع الواردات، ما سيؤدى إلى إجراءات انتقامية من الشركاء التجاريين.
لا شك أن انتشار التعريفات الجمركية المرتفعة بهذا الشكل فى الولايات المتحدة وحول العالم سيؤدى على الأرجح إلى تراجع سريع فى التجارة والإنتاج العالميين.
ووفقاً لتوقعات «المعهد الوطنى للبحوث الاقتصادية والاجتماعية» فى المملكة المتحدة، فإنَّ الاقتصاد الأمريكى قد ينخفض بنسبة تصل إلى 4% من الناتج المحلى الإجمالى؛ بسبب تأثير التعريفات.
ومع ذلك، قد يكون هذا التقدير متفائلاً بالنظر إلى حالة عدم اليقين التى ستنشأ.
فى النهاية، سياسات ترامب لن تنجح فى تقليل العجز التجارى الإجمالى، بل على العكس، ستؤدى إلى حالة من الفوضى الاقتصادية والسياسية، مع ركود اقتصادى محتمل وتوترات عالمية.








