في وقت ينشغل المسئولون في واشنطن بالتركيز على أشباه الموصلات المتقدمة للذكاء الاصطناعي، تمضي بكين بهدوء نحو السيطرة على سوق ما يُعرف بالرقائق الأساسية التي تُشغل كل شيء ابتداءً من السيارات والأجهزة الطبية وصولاً إلى أنظمة الدفاع.
أمن سلاسل التوريد الأمريكية قد يتوقف على القرارات المرتقبة نتيجة تحقيقات مكتب الممثل التجاري للولايات المتحدة ووزارة التجارة، بشأن مساعي الصين للهيمنة على هذا القطاع.
الأرقام تكشف عن واقع مقلق، إذ تستحوذ الصين بالفعل على ما يقرب من 40% من القدرة الإنتاجية العالمية للرقائق، وهو مسار يشير إلى هيمنة أكبر بحلول أواخر العقد الحالي، ومع ذلك، فإن هذه الأزمة تظل طي النسيان بفعل الانشغال بالسباق المثير على صدارة الذكاء الاصطناعي.
ورغم أن المصطلحات المضللة مثل “القديمة” أو “الناضجة” توحي بالتقادم، فإن هذه الرقائق الأساسية تُعد مكونات لا غنى عنها ومبتكرة، فهي أشباه موصلات تُصنع بتقنيات إنتاج عند مستوى 28 نانومتر أو أكبر، وتُعد العمود الفقري للأجهزة الرقمية.
وذكرت صحيفة “فاينانشيال تايمز” البريطانية أن أهميتها تكمن في انتشارها الواسع، إذ لا يكاد يخلو أي جهاز إلكتروني مزود بزر تشغيل وإيقاف منها، كما تشكل أساس البنية التحتية الوطنية الحيوية، حيث تدير شبكات توزيع الطاقة والاتصالات.
بالنسبة للبنتاجون، يُمثل ذلك ثغرة خطيرة، ففي حين تُعد الرقائق المتقدمة “عقل” الأنظمة العسكرية الحديثة، تُعتبر الرقائق الأساسية بمثابة “القبضة” في الأسلحة المنتشرة ميدانياً، فمقاتلات “إف-16″، وصواريخ “باتريوت”، وصواريخ “جافلين” المضادة للدبابات التي تدافع عن أوكرانيا جميعها تعتمد على هذه الرقائق، والتخلي عن السيطرة على سلاسل توريدها يعني عملياً التخلي عن السيطرة على الترسانة الأمريكية نفسها.
مقاتلات “إف-16” وصواريخ “باتريوت” و”جافلين” التي تدافع عن أوكرانيا.. جميعها تعتمد على هذه الرقائق
ويزداد القلق مع وضوح التهديد في ساحات القتال الأوكرانية، إذ تُشكل الصين حالياً ما يقرب من 90% من واردات روسيا من السلع ذات الأولوية العالية و الاستخدام المزدوج، مع العثور على أشباه موصلات صينية في الطائرات المسيّرة والصواريخ والدبابات الروسية.
في المقابل، تُركز أمريكا على الحد الأمامي للتكنولوجيا.
فقد كان “قانون الرقائق والعلوم” تشريعاً محورياً، إذ لم يكن لدى الولايات المتحدة أي قدرة على تصنيع الرقائق المتقدمة عند إقراره، وهو ما غير مسار القطاع.
من أصل 39 مليار دولار من المنح المخصصة للتصنيع، جرى توجيه نحو 28 مليار دولار لدعم منشآت تصنيع الرقائق المتقدمة، بينما حصلت الرقائق الأساسية على دعم أقل بكثير.
ويجب على الأمريكيين أن يثقوا في قدراتهم المبتكرة والتصنيعية الفائقة، لكن هذه القدرات لا تُمول بالآمال بل بالمال، وبسبب الدعم الحكومي الضخم الذي تقدمه بكين، لم يعد ممكناً الاعتماد فقط على آليات السوق التقليدية.
لذلك تُعد التحقيقات الأمريكية المرتقبة حاسمة، فمكتب الممثل التجاري ووزيرة التجارة يُحللان ما إذا كانت ممارسات الصين تشكل انتهاكاً تجارياً قابلاً للتحرك أو تهديداً للأمن القومي.
ولا بد أن تُختتم التحقيقات بتحرك حاسم، لكن الرسوم الجمركية وحدها لن تكون كافية، إذ قد تساعد الرسوم المستهدفة عادةً على إعادة توجيه سلاسل التوريد، لكن الحجم الهائل للصين يتطلب إجراءات أوسع.
وأظهر مسح حديث أجرته وزارة التجارة أن الرقائق الصينية باتت “منتشرة” وأن نحو نصف الشركات الأمريكية لا تعرف حتى ما إذا كانت تستخدمها.
الصين تزوّد روسيا بـ90% من السلع ذات الأولوية العالية والاستخدام المزدوج
هذا الوضع لا يمكن أن يستمر، لذا ينبغي على واشنطن اعتماد قاعدة “اعرف رقاقة جهازك”، على غرار قاعدة “اعرف عميلك” في القطاع المالي، لإجبار الشركات على رسم خريطة سلاسل التوريد الخاصة بها والإفصاح عنها.
وقد لا يروق هذا النهج لأنصار السوق الحرة، لكنه ضروري لاستعادة القدرة على الرؤية، وبناء القدرات، وتعزيز القاعدة الدفاعية.
ربما الأخطر أن اعتماد الولايات المتحدة على الرقائق الصينية يُضعف المنطق الاستراتيجي الذي حافظ على السلام عبر مضيق تايوان.
فعلى مدى عقود، شكل “التدمير الاقتصادي المتبادل المضمون” رادعاً فعالاً، إذ جعل اندماج الصين العميق في سلاسل التوريد العالمية أي صراع مكلفاً بشكل لا يُحتمل، لكن مع سعي الصين لتحقيق الاكتفاء الذاتي في الرقائق الأساسية واعتماد الغرب المتزايد على الإنتاج الصيني، يضعف هذا التوازن.
فإذا كان البنيان الأساسي للاقتصاد والمكونات الجوهرية للترسانات العسكرية يُصنع بمفاتيح تحكمها الخصم الرئيسي، فإن السباق على قيادة الذكاء الاصطناعي يفقد معناه.
ضمان سلاسل توريد محلية وتحالفية مرنة للرقائق الأساسية ليس قضية ثانوية يمكن تأجيلها بعد معالجة التحديات الأخرى، بل هو أولوية أمن قومي ملحّة وغير قابلة للتفاوض في عصرنا.
وتمثل تحقيقات مكتب الممثل التجاري ووزارة التجارة الفرصة الأخيرة للتحرك الحاسم، والفشل في ذلك سيكون كارثياً، حيث يتحول مصدر قوة أمريكا إلى ورقة ضغط صينية مع كل سيارة أو صاروخ أو جهاز طبي يتم إنتاجه.








