قالت ياسمين الحاجري، المديرة التنفيذية لمؤسسة سند للرعاية الوالدية البديلة، إن السنوات الـ17 الماضية شهدت تحولًا كبيرًا في فهم المجتمع والدولة لاحتياجات الأطفال فاقدي الرعاية الوالدية، مبينة أن الدولة والمجتمع المدني يتجهان نحو نموذج الرعاية الأسرية وشبه الأسرية بديلًا عن الإيواء التقليدي في دور الأيتام.
وأوضحت في حوارها لـ”البورصة”، أن “سند”، التي تأسست عام 2008، عملت منذ انطلاقها على تطوير منظومة الرعاية البديلة في مصر من خلال بناء قدرات مقدّمي الرعاية والأخصائيين الاجتماعيين وتحديث المعايير المهنية في دور الأيتام والتوعية المجتمعية بمفهوم الكفالة.
وبيّنت أن “سند” تضم حاليًا نحو 35 موظفًا نظاميًا يعملون في أقسام مختلفة تشمل التدريب والبحث والدعم النفسي والعلاقات المجتمعية، إلى جانب شبكة من المتطوعين والمستشارين المستقلين (العمل الحر) من ذوي الخبرة في مجالات علم النفس والاجتماع والتربية.
ووصفت “الحاجري” فريق “سند” بـ”العمود الفقري لأنشطة المؤسسة”، موضحة أن العمل في مجال الرعاية البديلة لا يمكن أن يقوم على الجهد الفردي، بل يحتاج إلى فرق مدرَّبة تعرف كيف تتعامل مع الأطفال ومع مؤسسات الدولة في الوقت نفسه.
وعلى صعيد جهود “سند”، أوضحت “الحاجري” أن المؤسسة ليست دار أيتام، ولكنها عملت على مر السنين مع أكثر من 300 دار أيتام في 21 محافظة، مشيرة إلى تطوير “سند” حقائب تدريبية معتمدة دوليًا ومحليًا، تهدف إلى “تأهيل الأطفال فاقدي الرعاية الوالدية والشباب أو النشء للاستقرار والاعتماد على النفس، لتمكين الشباب والأطفال من فهم مهارات حياتية أساسية، كالتوعية المالية وإدارة شئون المنزل والإسعافات الأولية إضافة إلى الجانب النفسي الذي يعزز فهم الذات، والاعتزاز بالهوية، والتعامل مع المجتمع الخارجي”.
كما تحدثت عن حملة “عالمهم سندهم”، التي تؤكد أن التعليم الجيد السند الحقيقي لهؤلاء الأطفال، ويسهم في بناء ثقتهم بأنفسهم ودمجهم في المجتمع، آملة أن يشهد العقد القادم دمجًا أفضل لفاقدي الرعاية الوالدية في المجتمع، مع تراجع أعداد الأطفال في دور الرعاية بفضل تفعيل الكفالة بشكل أكبر، داعية إلى ضرورة اختيار الأسر الكافلة بمعيار أفضل وتأهيلها ومتابعتها لضمان استقرار الأطفال وتجنب عودتهم لدور الرعاية في مراحل عمرية لاحقة.
اقتصاد الرعاية
أشارت “الحاجري” إلى ضرورة إدخال ملف الرعاية البديلة ضمن ما يعرف عالميًا بـ”اقتصاد الرعاية (Care Economy)”، مبينة أن تطوير مهنة مقدّم الرعاية والأخصائي الاجتماعي يخلق فرص عمل ويسهم في تحسين جودة الحياة وتقليل الأعباء النفسية والاجتماعية للأسر والمجتمع.
وقالت إن “سند” تعمل على نشر هذا المفهوم عبر الندوات والدراسات، داعية الدولة إلى دعم القطاع كجزء من منظومة التنمية البشرية، موضحة أن “سند” تقدم منحًا تعليمية متنوعة للشباب، لا تقتصر على التعليم الأكاديمي، بل تشمل التدريب المهني والحرفي.
وكشفت “الحاجري” عن تنفيذ “سند” بروتوكولات تعاون مع عدد من البنوك والشركات الخاصة لتدريب وتأهيل الشباب خريجي دور الرعاية مهنيًا وأكاديميًا، وتوفير فرص تدريب عملي داخل المؤسسات تمهيدًا لدمجهم في سوق العمل.
وأضافت أن المؤسسة بدأت أيضًا في تدريب إدارات الموارد البشرية في بعض الشركات على تطوير سياسات أكثر شمولًا لدمج أبناء الرعاية البديلة في بيئة العمل بطريقة لائقة وإنسانية.
اعتبرت “الحاجري”، أن الرعاية البديلة ليست عملاً خيريًا، بل استثمار مباشر في رأس المال البشري، مضيفة أن هؤلاء الأطفال جزء من طاقة المجتمع، ومن ثم، فالاستثمار في تعليمهم وتأهيلهم يعني خلق جيل منتج يساهم في التنمية.
ودعت القطاع الخاص إلى تبني رؤية تنموية تجاه الملف، عبر دعم التدريب المهني والتعليم والتوظيف، بدلاً من الاكتفاء بالتبرعات الموسمية.
معايير جديدة بعد عقود جامدة
أشارت “الحاجري” إلى أن مصر كانت تعتمد على لائحة رعاية قديمة تعود إلى عام 1977، حتى ساهمت “سند” بالشراكة مع وزارة التضامن الاجتماعي في إعداد أول معايير جودة رسمية للرعاية داخل المؤسسات الإيوائية، اعتمدتها الوزارة عام 2014 لتصبح ملزمة لكل دور الأيتام على مستوى الجمهورية.
وقالت إن تلك الخطوة نقلت مفهوم الرعاية من مجرد “إيواء” إلى تنمية شاملة للطفل، قائمة على الرعاية النفسية والتعليمية والمهارية، مضيفة أن المعايير الجديدة وحدت مفاهيم الرعاية في مصر وخلقت لغة مهنية واحدة بين الوزارة والجمعيات، بعد أن كانت كل مؤسسة تعمل بشكل منفصل وفق اجتهادها.
وذكرت “الحاجري” أن قانون الضمان الاجتماعي الجديد الصادر في أبريل الماضي أحدث نقلة نوعية، إذ اعترف لأول مرة بحقوق الشباب خريجي دور الرعاية بعد بلوغهم 18 عامًا، وأدرج مفهوم “الرعاية اللاحقة” ضمن بنوده.
وأوضحت أن الدولة بدأت بالفعل في منح وحدات سكنية ومنح دراسية لهؤلاء الشباب عبر لجنة “أبناء مصر” بوزارة التضامن، مؤكدة أن الشباب لم يعودوا يُعاملون كحالات إنسانية مؤقتة، بل كمواطنين كاملين يحتاجون إلى تمكين اقتصادي واجتماعي.
ولفتت إلى التحول الإيجابي في الخطاب الرسمي والمجتمعي تجاه الأطفال فاقدي الرعاية الوالدية، مشيرة إلى أن وصف “مجهولي النسب” جرى استبداله بـ”كريمي النسب”، ما يعكس تغييرًا في نظرة الدولة والمجتمع.
وأضافت أن الوعي بمفهوم الكفالة الأسرية اتسع في السنوات الأخيرة، بفضل الحملات التوعوية والدعم الإعلامي وإتاحة إجراءات الكفالة إلكترونيًا عبر المنصة الرقمية لوزارة التضامن.
الوصم المجتمعي.. تحدٍ كبير
ذكرت “الحاجري”، أن الوصم المجتمعي يظل التحدي الأبرز أمام منظومة الرعاية البديلة في مصر، مبينة أن ما يجهله الناس يخافونه، مشيرة إلى أن كثيرًا من أبناء دور الرعاية يتمتعون بأخلاق عالية ومواهب كبيرة، لكنهم يعانون من نظرة دونية سببها غياب الوعي.
وبيّنت ضرورة تكثيف الجهود الإعلامية والتعليمية لتغيير الصورة النمطية عن هؤلاء الأطفال، لأن غياب الوعي المجتمعي يحرمهم من فرص عادلة في التعليم والعمل والزواج.
وطالبت “الحاجري” الفنانين والمؤثرين بتحمّل مسئولية مجتمعية حقيقية تجاه قضايا فاقدي الرعاية، منتقدة تحويل بعض أشكال التعاون مع الجمعيات الأهلية إلى نشاط تجاري بحت.
ودعت صناع الدراما إلى تقديم نماذج طبيعية لأطفال الأسر الكافلة داخل الأعمال الفنية، موضحة أن تلك المشاهد كفيلة بتغيير ثقافة جيل كامل.
