شهد العالم في العقود الأخيرة تغييرات كبيرة في السياسات الصحية العامة، تطورت فيها التشريعات لحماية المواطنين من العديد من الأمراض، من خلال اتخاذ سلسلة طويلة من الإجراءات المتنوعة، شملت على سبيل المثال لا الحصر: فرض القيود على الأغذية عالية السكر والدهون.
لكن، وبالرغم من ذلك، لم يمتد هذا التقدم اللافت بالقدر نفسه إلى قضية التدخين والأمراض المرتبطة به، إذ بقيت السياسات المتعلقة بمنتجات التبغ والنيكوتين على حالها، مع ركود نسبي في الابتكار التنظيمي مقارنة ببقية المجالات، ما أبقاها واحدة من أكثر الملفات تعقيدًا وحساسية، حيث لا يزال المنع يتقدم على العلم فيما يتعلق بها.
تفاوت السياسات الأوروبية في التعامل مع بدائل النيكوتين
وفي هذا السياق، بينما اعتمدت الكثير من الدول نهجًا مبتكرًا يتمثل في الحد من المخاطر مثل السويد والمملكة المتحدة واليابان، والتي تكيفت سياساتها مع المستجدات العلمية، لا تزال بالمقابل دول مثل إسبانيا وفرنسا وعدة دول في الاتحاد الأوروبي، تتعامل مع منتجات النيكوتين بعقلية متشبثة بنهج المنع الشامل نفسه الذي تم وضعه قبل عقود، رغم ظهور بدائل مبتكرة أثبتت بالدلائل العلمية أنها أقل خطورة من المنتجات التقليدية، كما برهنت على قدرتها في تقليل المخاطر.
ما بين حماية الشباب وتمكين المدخنين البالغين من بدائل أقل خطورة، تجد حكومات المنع نفسها أمام معادلة صعبة، والحقيقة أن حلها أبسط ما يكون؛ إذ لا يكمن بالشعارات، بل بالتشريعات الذكية القائمة على الأدلة والابتكار.
انتقاد لإسبانيا بشأن سياسات التبغ
وحول هذا الشأن، انتقد السياسي والاقتصادي والأمين العام السابق لحزب العمال الاشتراكي، توماس جوميز، في مقالة له بصحيفة LA RAZÓN، ميل إسبانيا إلى التنظيم دون إجراء تقييم موضوعي يوازن بين جدوى القرارات وتأثيراتها الفعلية. وقد أثار هذا الطرح نقاشًا واسعًا حول مستقبل تنظيم منتجات التبغ والنيكوتين.
وأوضح جوميز أن السياسات القائمة، التي تعتمد على الرفع المستمر للضرائب وتشديد القيود على منتجات النيكوتين ومنتجات التبغ دون تمييز بينها، تنطلق من منطلقات أيديولوجية أكثر منها علمية.
وحذر من أن الإفراط في المنع يقود إلى نتائج عكسية، كما حدث تاريخيًا في ثمانينيات القرن الماضي، حين أدى تشديد القوانين على تهريب التبغ في جاليسيا-شمال غرب إسبانيا، إلى انتقال العصابات نفسها لتجارة الممنوعات، لأن العقوبة أصبحت واحدة بينما تضاعف الربح.
البعد الاقتصادي لصناعة التبغ
تعد صناعة التبغ من أقدم الصناعات في إسبانيا، إذ يعود تاريخها إلى عام 1880، وتشكل اليوم نحو 21.4% من قطاع التصنيع، و2.6% من الناتج المحلي الإجمالي. وهذا ما يدفع، حسب جوميز، إلى نتائج كارثية في حال تم تهميش الجانب الاقتصادي والاجتماعي مع سياسة المنع الشامل، بالرغم من أن حماية الصحة العامة واجب لا جدال فيه.
وبيّن أن معدل استهلاك التبغ القانوني ارتفع في عام 2024 في إسبانيا إلى 1.4 مليار وحدة، بزيادة قدرها 52 مليون وحدة عن العام السابق، ما تسبب بخسائر مالية تجاوزت 263 مليون يورو في الإيرادات الضريبية.
كما تشير تقارير الاتحاد الأوروبي إلى أن فرنسا، التي فرضت ضرائب قاسية على منتجات الدخان دون التمييز بين التقليدي والبدائل، شهدت ارتفاعًا في تجارة السجائر غير القانونية إلى 18.7 مليار وحدة عام 2024، منها 7.8 مليار سجائر مقلدة، مقابل تضاعف التهريب في هولندا بنسبة 14% خلال عام واحد فقط.
وأكد جوميز أن سياسات المنع الشامل غير المبنية على تحليل التكلفة والفائدة، لا تقل خطورة عن التساهل الكامل؛ إذ تخلق اقتصادًا رماديًا يعيد المشكلة إلى الظل بدلاً من معالجتها.
الأدلة العلمية حول بدائل النيكوتين
تؤكد العديد من الأبحاث المنشورة في مجلات علمية مرموقة أن منتجات النيكوتين الخالية من الدخان تقلل المخاطر الصحية بنسبة تصل إلى 70%-90% مقارنة بالتدخين التقليدي، كونها تلغي معادلة الاحتراق كليًا، وبالتالي تقلل التعرض للكثير من المواد السامة والضارة الناتجة عن الاشتعال والاحتراق، فضلاً عن احتوائها على عدد أقل بكثير من المواد الكيميائية.
وأشار جوميز إلى أن هذه المنتجات لا تقلل المخاطر على المستهلك فقط، بل تحد كذلك من الأثر السلبي على من حوله، مؤكدًا أن التعامل مع هذه البدائل بنفس التشديد الموجه ضد السجائر التقليدية يفقد التشريعات معناها العلمي والمنطقي.
نهج مزدوج المسار لحماية الصحة العامة
لتصويب النظر تجاه الحقيقة، تتطلب صياغة سياسات ناجحة في هذا المجال نهجًا مزدوج المسار:
مسار الوقاية الصارم: منع وصول القاصرين إلى أي من منتجات النيكوتين، مع رقابة قوية على التسويق والبيع، وتوعية مجتمعية شاملة.
مسار التنظيم العلمي للبالغين: تمكين المدخنين البالغين من الوصول إلى بدائل أقل خطورة ضمن إطار رقابي شفاف يشجع البحث والتطوير والابتكار المسؤول، بدل دفع المستهلكين نحو السوق السوداء.
هذا التوازن لا يحمي الصحة العامة فحسب، بل يرسخ ثقافة المواطنة المسؤولة والاختيار الواعي، مع الحفاظ على التنافسية الاقتصادية في قطاع قيمته مليارات اليوروهات سنويًا.
الدروس المستفادة من التجارب الدولية
إن التجارب الدولية من السويد إلى اليابان تظهر أن الاستثمار في الحد من المخاطر ليس تنازلاً عن الصحة العامة، بل تطور في مفهومها. ففي السويد، التي أتاحت منتجات النيكوتين البديلة ضمن لوائح دقيقة، انخفضت معدلات التدخين إلى أقل من 5%، وهي الأدنى في أوروبا، مما يثبت أن الابتكار المنظم بالأدلة يمكن أن ينقذ الأرواح أكثر من السياسات العقابية وحدها.
إسبانيا عند مفترق الطرق
تقف إسبانيا اليوم عند مفترق طرق: إما الاستمرار في سياسة المنع الشامل التي تغذي السوق غير القانونية، أو الانفتاح على مقاربة جديدة تشجع البحث والابتكار وتبني قراراتها على الأدلة لا على الأيديولوجيا.
وأكد جوميز أن التعامل مع القضايا المتنوعة بأسلوب موحد أمر غير منطقي، فالحد من المخاطر يعد استراتيجية ذكية تتيح حماية الشباب، ومساعدة المدخنين على الانتقال إلى بدائل أقل ضررًا، كما تمنح المجتمع فرصة التنفس في بيئة خالية من الدخان والتحيزات الأيديولوجية.








