حوض بناء السفن في فيلادلفيا يتلقى طلبا لبناء 12 سفينة تجارية
سيظل عام 2025 حاضراً في الذاكرة بوصفه عام الرسوم الجمركية، بغض النظر عن الخلفية الأيديولوجية الاقتصادية.
فالتجارة الدولية ليست في ذاتها خيراً أو شراً، بل هي واقع قائم، بينما يبقى السؤال الجوهري مرتبطاً بمدى خدمة أنماط التجارة للمصلحة الوطنية.
بالنسبة للرئيس الأمريكي دونالد ترامب وإدارته، فإن الإجابة تكمن في تبني سياسة تجارية تستهدف تسريع وتيرة إعادة التصنيع داخل الولايات المتحدة.
لقد خلف العجز المتزايد والمزمن في الميزان التجاري الأمريكي، سواء في السلع المصنعة أو الزراعية، آثاراً بالغة السلبية على الاقتصاد.
وقد لا تعبأ الشركات متعددة الجنسيات بمكان تحقيق الأرباح أو مواقع الإنتاج، إلا أن الأمر يختلف تماماً بالنسبة لعمال صناعة السيارات في ميشيغان أو مزارعي القطن في تكساس، الذين يسعون للحفاظ على استقرار مجتمعاتهم المحلية.
كما تبرز أهمية تمكين المبتكرين من الوصول إلى الخبرات والمعرفة المتراكمة داخل المصانع، فضلاً عن ضرورة امتلاك قاعدة صناعية قوية وقادرة على الصمود، بما يضمن الحفاظ على متطلبات الدفاع الوطني، وفق ما أشارت إليه صحيفة “فاينانشيال تايمز” البريطانية.
ويستلزم تغيير هذا الواقع اعتماد نهج يجمع بين الرسوم الجمركية والاتفاقات التجارية، بما يوفر حوافز حقيقية للإنتاج المحلي، إلى جانب تحسين فرص وصول الصادرات الأمريكية إلى الأسواق الخارجية.
وقاد الرئيس الأمريكي، حملته الانتخابية مرتكزاً على وعود بفرض رسوم جمركية حمائية، وبدأ ولايته الثانية بإطلاق حزمة من الإجراءات التجارية لترجمة هذه الوعود إلى واقع.
وبعد أشهر من المفاوضات المكثفة، تم في 31 يوليو إقرار إطار جديد للتجارة المتوازنة، تضمن فرض رسوم جمركية بنسبة 10% على الدول التي تحقق الولايات المتحدة معها فائضاً تجارياً، و15% على الدول ذات العجز المحدود، إلى جانب رسوم أعلى على الشركاء الذين تسجل الولايات المتحدة معهم عجزاً تجارياً كبيراً.
في وقت سابق من الشهر نفسه، توصل الرئيس إلى اتفاق مع رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين، لتتواصل بعدها مفاوضات “جولة تيرنبيري” للتجارة العالمية بوتيرة أسرع.
وخلال فصل الخريف، جرى التوصل إلى اتفاقات وأطر تعاون تجارية مع ماليزيا وكمبوديا وتايلاند وفيتنام وكوريا، كما أُنجز اتفاق استثماري مع اليابان، إلى جانب الإعلان عن أطر اتفاقات جديدة مع غواتيمالا والسلفادور والأرجنتين والإكوادور.
بموجب هذه التفاهمات، وافق الشركاء التجاريون على إلغاء الرسوم الجمركية على المنتجات الأمريكية أو خفضها بشكل كبير، إلى جانب إزالة أو تبسيط الحواجز غير الجمركية مثل تراخيص الاستيراد والاختبارات المكررة والمعايير واللوائح غير العلمية، وتعزيز حماية حقوق الملكية الفكرية وإنفاذها، وحظر استيراد السلع المنتجة باستخدام العمل القسري، وضمان المعاملة العادلة لشركات الخدمات الرقمية، والامتناع عن فرض ضرائب على هذه الخدمات، فضلاً عن توسيع نطاق النفاذ إلى أسواق الخدمات.
كما تعهد الشركاء بالتشاور والتعاون مع الولايات المتحدة في تطبيق ضوابط التصدير، وفحص الاستثمارات، ومواجهة الممارسات غير السوقية التي تشوّه التجارة العالمية.
والتزمت دول عدة أيضاً بضخ استثمارات كبيرة داخل الولايات المتحدة، إلى جانب زيادة مشترياتها من السلع الأمريكية.
في المقابل، حصلت هذه الدول على تعديلات جمركية ملموسة من جانب الولايات المتحدة، وشراكات في الاستثمار العابر للحدود، والمشاركة في منظومة التكنولوجيا الأمريكية، مع الحفاظ على إمكانية الوصول إلى أكبر سوق استهلاكي في العالم.
يجري تقييم نجاح هذه السياسة التجارية الجديدة من خلال ثلاثة معايير رئيسية، تتمثل في دعم النمو الاقتصادي الكلي، وخفض العجز التجاري، وتحسين أجور العمّال الأمريكيين، وزيادة مساهمة قطاع التصنيع في الاقتصاد، وقد سجل النمو الاقتصادي 3.8% خلال الربع الثاني.
تشير المؤشرات إلى آفاق إيجابية، إذ بلغ معدل التضخم الأساسي 2.7%، وهو أدنى مستوى له منذ خمس سنوات.
كما تراجع العجز التجاري العالمي للولايات المتحدة في السلع منذ أغسطس، بما في ذلك انخفاض سنوي يقارب 25% في العجز مع الصين، وارتفعت الأجور بعد تعديلها وفق التضخم، بالتزامن مع عودة النشاط التصنيعي.
ولا يخلو مسار استعادة الريادة الصناعية من التحديات، إذ استغرق فقدانها عقوداً، ومن غير الممكن استعادتها سريعاً، مع ذلك، شهد هذا الخريف خروج أول مغناطيسات من العناصر الأرضية النادرة يتم تصنيعها في أمريكا الشمالية منذ 25 عاماً، وذلك من خطوط الإنتاج في كارولاينا الجنوبية.
كما تلقى حوض بناء السفن في فيلادلفيا، طلبات لبناء 12 سفينة تجارية، من بينها ناقلتان للغاز الطبيعي المسال، في خطوة تُعد الأولى من نوعها منذ نحو 50 عاماً.
وأُعيد تشغيل المسابك وأفران الحدادة، وصُبت الأساسات لمنشآت دوائية جديدة، فيما عادت خطوط إنتاج السيارات إلى العمل داخل الولايات المتحدة.
إذا رأى البعض في هذه التطورات بداية متعثرة، فيمكن تقبل هذا الرأي، غير أن المقارنة بالبديل تظل ضرورية: فلو جرى رفع الرسوم الجمركية، هل كان هذا الزخم الإنتاجي سيظهر من الأساس؟
إن إعادة التصنيع لا تقتصر على سياسة تجارية فعالة فحسب، بل تتطلب أيضاً سياسات داعمة في مجالات التكنولوجيا وتنمية القوى العاملة والتنظيم والضرائب والطاقة، وهي جميعها ملفات تحظى بالأولوية لدى إدارة ترامب.







