يشهد قطاع الصيرفة الإسلامية فى مصر توسعاً ملحوظاً فى قاعدة عملائه وتنوع خدماته، لكنَّ تأثيره فى السوق المصرفى ككل لا يزال محدوداً نسبياً.
وفى هذا الحوار مع «البورصة»، يستعرض يوسف حسن خلاوى، الأمين العام لمنتدى البركة للاقتصاد الإسلامى، مسارات النمو الحالية، والتحديات التى تواجه الصناعة، فضلاً عن الفرص المستقبلية، وعلى رأسها دور الصكوك فى تمويل مشروعات البنية التحتية، والإمكانات الكامنة لتحول مصر إلى مركز إقليمى للتمويل الإسلامى.
قال يوسف حسن خلاوى، الأمين العام لمنتدى البركة للاقتصاد الإسلامى، إنَّ قطاع الصيرفة الإسلامية فى مصر حقق معدلات نمو قوية تصل إلى نحو 32%، وهى وتيرة تفوق متوسط نمو القطاع المصرفى ككل، لكنَّ الحصة السوقية لا تزال تدور حول 5.2% فقط.
وعزا هذا التباين بين قوة النمو، وضآلة الحصة السوقية إلى صغر نقطة الانطلاق التاريخية للصناعة.
وكشف «خلاوى»، أن استمرار النمو بالوتيرة الحالية يحتاج إلى وقت كافٍ حتى ينعكس بصورة ملموسة على الحصة السوقية، مؤكداً أن المؤشرات الراهنة تعكس مساراً تصاعدياً حقيقياً، وليس نمواً عابراً.
4 ملايين عميل و326 فرعاً للصيرفة فى السوق المصرى
وأشار إلى أن عدد عملاء الصيرفة الإسلامية فى مصر تجاوز 4 ملايين عميل، مع انتشار شبكة الفروع إلى نحو 326 فرعاً، معتبراً أن هذا التوسع يعكس مزيجاً واضحاً بين تحول تدريجى فى سلوك الجمهور من ناحية، وتوسع مؤسسى تقوده البنوك من ناحية أخرى.
وأوضح أن زيادة وعى العملاء بطبيعة المنتجات المتوافقة مع الشريعة، إلى جانب التوسع فى إنشاء النوافذ الإسلامية داخل البنوك التقليدية، أسهما فى تقريب الخدمات المصرفية الإسلامية من شرائح أوسع من المستخدمين.
وأكد «خلاوى»، أن هذا التفاعل المتبادل بين العرض والطلب يمثل أحد المحركات الأساسية للنمو الحالى؛ حيث لم يعد التمويل الإسلامى مقصوراً على شريحة بعينها؛ بل بات يخاطب قطاعات متنوعة تبحث عن أدوات تمويل مستقرة ومرتبطة بالاقتصاد الحقيقى.
وفيما يتعلق بالهيكل المالى للصيرفة الإسلامية، أوضح أن التوازن القائم بين حجم التمويل الإسلامى، الذى بلغ نحو 980 مليار جنيه، وحجم الودائع الإسلامية التى وصلت إلى 862 مليار جنيه، يعكس الدور الحقيقى للصيرفة الإسلامية كمحرّك للنشاط الاقتصادى، وليس مجرد وعاء ادخارى لتجميع السيولة.
وأشار إلى أن الزيادة الملحوظة فى التمويل تعكس توجيه الأموال نحو قطاعات إنتاجية فى الصناعة والتجارة والخدمات، بما يتسق مع الطبيعة الجوهرية للتمويل الإسلامى القائم على الارتباط بالأصول والأنشطة الحقيقية.
وأضاف أن تجاوز حجم المعاملات حاجز التريليون جنيه يعكس تعمق اندماج الصناعة المالية الإسلامية داخل الدورة الاقتصادية المصرية، وانتقالها من الهامش إلى قلب النشاط الاقتصادى.
وعن تجارب البنوك الإسلامية العاملة فى السوق المصرى، أكد «خلاوى» أنها تمتلك ثلاث مزايا رئيسية تؤهلها للقيام بدور قيادى داخل القطاع المصرفى. وتتمثل هذه المزايا فى الخبرة التشغيلية الطويلة فى تصميم وإدارة المنتجات المتوافقة مع الشريعة، والقدرة على جذب شرائح متنوعة من العملاء، إلى جانب الاستثمار المكثف فى الرقمنة والخدمات المصرفية الحديثة.
توسع النوافذ الإسلامية يقرب الخدمات من شرائح أوسع
وأوضح أن الاستثمار فى التحول الرقمى لم يعد خياراً ترفيهياً؛ بل أصبح ضرورة إستراتيجية تفرضها طبيعة المنافسة، وتغير أنماط سلوك العملاء، مشيراً إلى أن البنوك الإسلامية التى نجحت فى الدمج بين الالتزام الشرعى والتكنولوجيا الحديثة تمكنت من تعزيز حضورها السوقى ورفع كفاءة خدماتها.
وفيما يتعلق بإمكانية تحول مصر إلى مركز إقليمى للتمويل الإسلامى، أكد «خلاوى»، أن مصر تمتلك مقومات أساسية لتحقيق ذلك، فى مقدمتها حجم السوق الكبير، والقاعدة السكانية الضخمة، إلى جانب قطاع مصرفى يتمتع بخبرة تنظيمية وقدرة مؤسسية، وبنية تشريعية وتنظيمية آخذة فى التطور.
وأشار إلى أن تسريع وتيرة إصدار الصكوك السيادية، وتوسيع نطاق الرقمنة، وتقديم حوافز تشريعية وتنظيمية لجذب اللاعبين الدوليين، تمثل عناصر حاسمة لتحويل مصر إلى منصة إقليمية للتمويل الإسلامى، قادرة على خدمة احتياجات أفريقيا والمنطقة العربية فى آن واحد.
وحول مستقبل الصكوك الخضراء والاجتماعية داخل السوق المصرى، أكد «خلاوى»، أن هذه الأدوات تمثل فرصة حقيقية؛ نظراً إلى أنها تجمع بين متطلبات التنمية المستدامة والتمويل طويل الأجل، فضلاً عن توافقها مع توجهات المستثمرين الدوليين الباحثين عن أدوات تتسم بالشفافية والأثر البيئى والمجتمعى.
وأضاف أن صياغة إطار تنظيمى واضح للصكوك الخضراء، إلى جانب تعزيز القدرات الفنية داخل البنوك والمؤسسات المالية، يمكن أن يؤهلا مصر لتصبح مركزاً إقليمياً لإصدار الصكوك المرتبطة بالمناخ والطاقة المتجددة، بما ينسجم مع احتياجاتها التنموية فى مجالات الطاقة والمياه والنقل.
وأشار الأمين العام لمنتدى البركة إلى أن انتقال التمويل الإسلامى فى مصر من مرحلة النمو إلى مرحلة القيادة المؤسسية داخل الاقتصاد يتطلب توافر ثلاثة عناصر رئيسية: أولها ابتكار منتجات مالية جديدة تتجاوز الصيغ التقليدية، وتقدم حلولاً تمويلية أكثر مرونة وملاءمة لاحتياجات السوق.
ويتمثل ثانيها فى رقمنة شاملة تتيح الوصول إلى ملايين العملاء دون أعباء توسع مكلفة فى شبكة الفروع. أما العنصر الثالث، فيتمثل فى رفع كفاءة الموارد البشرية عبر برامج تدريب متخصصة تجمع بين المعايير الشرعية والمالية.
التمويل الإسلامى يخاطب الاقتصاد الحقيقى لا شريحة بعينها
وأكد «خلاوى»، أن الصناعة المالية الإسلامية فى مصر باتت جاهزة للاندماج العميق داخل سياسات التنمية الوطنية، فى ظل النمو المتواصل للأصول، وتوسع حجم التمويل، وتزايد الطلب المجتمعى، ودخول مؤسسات جديدة إلى السوق.
وأوضح أن التمويل الإسلامى يمكن أن يشكل ذراعاً رئيسية لتمويل مشروعات البنية التحتية والطاقة والزراعة والصناعة، شريطة استمرار السياسات الداعمة للابتكار والتنوع المؤسسى.
وفى سياق متصل، لفت إلى أن مصر تُعد من أوائل الدول التى احتضنت العمل المصرفى الإسلامى، لكن الحصة السوقية لا تزال ضعيفة نسبياً، سواء بالنسبة للبنوك الإسلامية الكاملة أو النوافذ الإسلامية داخل البنوك التقليدية، مرجعاً ذلك إلى أسباب تاريخية وهيكلية.
وأوضح أن نشأة البنوك الإسلامية ارتبطت فى بداياتها بخدمة شريحة من العملاء بدافع دينى فى المقام الأول، دون التركيز الكافى على كون البنك مؤسسة تجارية تسعى لتقديم خدمات تنافسية وجاذبة لجميع فئات العملاء.
وأكد أن تغيير هذا الفكر يتطلب التوسع فى تقديم منتجات متنوعة للأفراد والشركات، إلى جانب تمويل مشروعات الدولة بصيغ متوافقة مع الشريعة وقادرة على المنافسة.
وشدد «خلاوى» على أن الاعتراف التشريعى والقانونى بصيغ التمويل الإسلامى يمثل حجر الأساس لنمو هذا النشاط، مشيراً إلى أن عدم الاعتراف ببعض الصيغ، مثل المرابحة، يؤدى إلى مشكلات هيكلية، من بينها الازدواج الضريبى، ما يضعف الجدوى الاقتصادية لهذه الأدوات.
980 مليار جنيه تمويلاً إسلامياً مقابل 862 ملياراً «ودائع»
كما أكد أهمية التوعية المجتمعية بطبيعة التمويل الإسلامى والفروق الجوهرية بينه وبين التمويل التقليدى، إلى جانب الحاجة إلى تسويق احترافى وابتكار مستمر فى المنتجات.
ولفت إلى أن بعض المنتجات، مثل تمويل التعليم، تمثل أدوات حيوية فى الدول الناشئة؛ نظراً إلى عدم قدرة عدد كبير من الأسر على سداد التكاليف التعليمية دفعة واحدة، ما يفرض على البنوك الإسلامية تطوير حلول تمويلية مرنة تستجيب لهذه الاحتياجات.
وعن سوق الصكوك، أوضح «خلاوى»، أن الإصدارات شهدت نمواً ملحوظاً خلال العامين الماضيين، مدفوعة بدخول دول جديدة إلى السوق، من بينها مصر التى أصدرت أول صك سيادى لها، إلى جانب التوسع الكبير فى الإصدارات بالسعودية والإمارات.
وأكد أن التوقعات تشير إلى استمرار هذا النمو خلال عام 2026، دون تحديد أرقام دقيقة.
وأشار إلى أن المصرفية الإسلامية فى مصر لا تزال مؤهلة لتحقيق معدلات نمو أعلى، شريطة تطوير المنتجات وتوسيع قاعدة العملاء، مؤكداً أن المشروعات الصغيرة والمتوسطة وريادة الأعمال تمثل القطاعات الأكثر جذباً للتمويل الإسلامى؛ نظراً إلى عدم ملاءمة أدوات التمويل التقليدى لطبيعتها، فى مقابل توافق صيغ الشراكة والمضاربة والوكالة بالاستثمار مع احتياجاتها.
وفيما يتعلق باستثمار البنوك الإسلامية فى أدوات الدين الحكومى، أوضح «خلاوى»، أن الاعتماد على فكرة «تطهير الأرباح» لم يعد حلاً مناسباً فى ظل تطور الأسواق، مؤكداً أن الاستثمار فى أدوات يُنظر إليها على أنها غير متوافقة مع الشريعة ثم إخراج عائدها لا يحقق فائدة حقيقية للبنك أو للمساهمين.
وشدد على ضرورة استحداث قنوات استثمارية بديلة متوافقة مع الشريعة، بالتعاون مع البنك المركزى، لتوظيف سيولة البنوك الإسلامية والاحتياطيات النظامية المفروضة عليها، بما يحقق عائداً عادلاً دون الإخلال بالضوابط الشرعية.
مقومات قوية تؤهل مصر لتصبح مركزاً إقليمياً للتمويل الإسلامى
وحول غياب البنوك الإسلامية السعودية عن السوق المصرى، أوضح أن البنوك السعودية تتمتع بفرص توسع ونمو كبيرة داخل سوقها المحلى، الذى يشهد استقراراً وتطوراً مستمرين، ما يقلل من دوافع التوسع الخارجى فى المرحلة الراهنة.
وأكد «خلاوى»، أن الصناعة المالية الإسلامية عالمياً تجاوزت مرحلة إثبات الذات، وأصبحت جزءاً أصيلاً من بنية التمويل الدولى، فى ظل وصول أصولها إلى نحو 6 تريليونات دولار خلال عام 2024، بمعدل نمو سنوى يقارب 21%.
وأوضح أن هذا النمو يعكس تحولاً هيكلياً فى دور الصناعة، مدفوعاً بتوجه الاقتصادات الكبرى نحو أدوات تمويل أخلاقية مستقرة وقادرة على دعم التنمية طويلة الأجل.








