الطموح المسيطر على المسلم الحق، الذى يعى القيم الإيجابية العظيمة فى دينه، يتمثل فى أن يكون رمضان شهراً للروحانيات والعبادة وللعمل والإنتاج وللتواصل الاجتماعى والتراحم، لكن المشكلة أن الأغلب الأعم من المصريين لا يعترفون بقيمة وجدوى العمل، فى رمضان وغيره من الأشهر ويحولون العبادة والسلوك الدينى إلى طقوس شكلية لا تقتحم الأعماق، ويهملون القيم الجميلة الموروثة لاجئين إلى التشبث بعادات وممارسات بديلة لا مصدر لها إلا الإلحاح الإعلامى والدعائى.
ليس مستغرباً إذاً أن يتحول شهر رمضان فى العقود الأخيرة مع تصاعد نفوذ وتأثير التليفزيون وإنتاجه الدرامى والبرامجى المتنوع إلى مناسبة لمشاهدة كم هائل من المسلسلات والبرامج التى تتسم بالكثير من السطحية والفجاجة والابتذال.
عشرات من المسلسلات والبرامج التى تزدحم بها نهارات رمضان ولياليه ولا أحد يستطيع الزعم بأنه يتابع كل أو معظم هذا الإنتاج الذى يحتاج إلى مائة ساعة فى اليوم، بافتراض أنه لا عمل ولا نوم ولا عبادة.
كان المأمول أن نتقدم ونزداد وعياً ونضجاً، ونراعى ما تمر به مصر من عواصف التغيير والاضطراب فى المرحلة الانتقالية التى طالت أكثر مما ينبغى، فإن لم يكن صانعو الدراما قادرين على الإنجاز الرشيد المحترم، فلا أقل من «كف الأذى» والابتعاد عن الإسفاف المدمر المسىء،
لكن شيئاً من هذا لم يحدث، فالطوفان الأقوى يتمثل فى أعمال يغلب عليها ترسيخ القيم السلبية، وزيادة حالة الاحتقان التي يحتاج المجتمع المصرى المرهق المأزوم إلى المزيد منها.
الملمح الأول والأبرز فى مسلسلات رمضان أنها أو أغلبها مكرر لا يضيف جديداً وقد يشاهد المرء عدة حلقات من مسلسل «جديد» فلا يملك إلا التفكير في أنه قد شاهد العمل من قبل، وأنه بالضرورة «مستنسخ» من عمل سابق حقق قدراً من النجاح والقبول، فيأبى التجار والمنتجون إلا الاستثمار فى المضمون.
هكذا نرى مسلسلاً مثل «الزوجة الرابعة»، يوشك أن يكون صورة طبق الأصل من «عائلة الحاج متولى» ولا يختلف عنه إلا فى زيادة جرعة الإسقاطات الجنسية الفجة التى لا تتوافق مع جلال رمضان ولا يليق أن تُرى وتُسمع فى غير رمضان أيضاً.
المشكلة هنا لا تكمن فى التعرض للجنس وقضاياه، لكنها فى منهج وأسلوب التناول والمعالجة، لا متسع بطبيعة الحال للحديث عن الهدف والرسالة والقيمة والمغزى، فالأمر لا يتجاوز عبارات مسفة خادشة مشينة يظن صانعوها أنها جذابة ومثيرة، متجاهلين حقيقة أنها تصنع حالة عامة من النفور والاستياء وتمنح فرصة ذهبية لمن يرفعون رايات الرقابة وتقييد حرية الإبداع عبر سن قوانين جائرة تتكئ على بعض النماذج الرديئة الصادمة، حرية الابداع مطلب نبيل لا تهاون فيه، لكنها مقيدة بوعى المبدعين أنفسهم والتزامهم بثوابت فنية فى المقام الأول، وأخطر ما يهددنا الآن هو أن نتجاوز الحرية إلى الانفلات غير المحسوب، وكأننا نعيد إنتاج ما ترتب على ثورة 25 يناير من فهم مغلوط لمقاصد وحدود الحرية الحقيقية.
لعنة التوريث
لا حرج ولا دهشة فى أن يتأثر الأبناء بآبائهم ويحتذون خطاهم، فيحلم الابن أن يكون مثل أبيه طبيباً أو مهندساً أو محامياً، لكن الأمر يتحول إلى دائرة التوريث الكابوسية البغيضة فى مجالات مثل الفن والسياسة والرياضة، فليس حتمياً أن ينجب الفنان أو السياسى أو الرياضى ابناً موهوباً فى المجال نفسه، وإن ورث الابن موهبة أبيه، فلابد أن يعمل ويسعى ويكد ويشقى حتى تتاح له فرصة الوصول إلى المكانة اللائقة بمجهوده الخاص دون وساطة!
ما نراه فى رمضان من مسلسلات يبرهن على أن الأمر قد تحول إلى توريث فعلي، فالممثل الكبير ينجب ممثلا أو مخرجا، والابن لا يبدأ من أول السلم وبداية الطريق، معتمداً على الموهبة إن وجدت، لكنه يبدأ من النهاية، فإذا به بطل نجم أو مخرج لمسلسل ضخم، ولا سلاح يستعين به إلا انه ابن النجم الشهير، الذى يتيح له فرصة سابقة التجهيز، لا شأن لها بالاستعداد والخبرة، ولا تمر عبر بوابة الصبر والتعب.
من واجب الآباء ان يؤمِّنوا مستقبل ابنائهم، لكن التوريث على هذا النحو يبدو فجاً مخلاً بمبادئ العدالة والفرص المتساوية، فالقراءة المتأنية لكثير من المسلسلات ذات الطابع التوريثى تكشف عن ان كثرة من أبناء السادة كبار الفنانين لم يصلوا إلى مرحلة من النضج تبرر ما، وصلوا إليه من مكانة تغوق قدراتهم.
ليس مثل الإعلان الذى تقدمه إحدى شركات المحمول فى التعبير عن السيطرة العائلية الكارثية، والأغلبية الكاسحة من المشاهدين لا تنشغل إلا بالبحث عن اجابة مقنعة لسؤال بسيط: كم من الملايين يحصل عليها هؤلاء النجوم وابناؤهم؟ وإلى كم تصل الأرباح الخيالية للشركات حتى تبعثر أموالها بمثل هذا الإسراف السفيه؟! انهم لا يقدمون إعلاناً خفيف الظل كما يتوهمون، لكنهم يزيدون حالة الاحتقان والغضب الاجتماعي، ويلعبون بالنار التى قد تحرق كل شىء!.
لقد تجاوز السفه الإعلانى كل حد يمكن تقبله، ولاشك أن أحداً لا يستطيع ان يتدخل ليفرض القواعد والقوانين والأعراف، ذلك أن الاحساس نعمة لا تحتاج إلى تعليم أو تلقين!.
روح رمضان
يحتاج الصائمون المرهقون إلى قدر من الترويح المشروع بطبيعة الحال، لكن الفارق شاسع بين الفن الذى يغسل القلوب ويضىء العقول ويصنع الوعي، وبين إهدار الوقت والجهد فى مشاهدة أعمال غليظة سمجة مكررة، وتحويل بعض التافهين والتافهات إلى مثل أعلى.
مصر الجديدة لن يتم بناؤها بمثل هذا الأسلوب السخيف الذى لا يراعى «فقه الأولويات» ولا يبحث عن تقديم نماذج جيدة يتعلم منها الأطفال والشباب، فما الذى يجدونه فى برامج لا تستضيف الا مجموعة من الأدعياء والتافهين، أو برامج تفتعل الإثارة وخفة الدم، ويهيمن عليها ابتذال غير مسبوق فى سطحيته؟!
هل يحتاج المصريون فى شهر الصيام، وفى غير شهر الصيام، إلى مثل هذه النوعية من البرامج السخيفة التى «تزغزغ» المشاهدين وتمتهن عقولهم؟! هل يحتاجون إلى الإحاطة بأسرار وخبايا تتعلق بزواج وطلاق؟ الحصيلة وخيمة بلاشك، والخوف كل الخوف ان نندم وقت لا ينفع الندم، المجتمع المصرى يمر بمرحلة عصيبة، ولا يحتمل مزيداً من الانفلات، والذين يفسدون «روح رمضان» بتحويل مسار الشهر الكريم، إلى هذا الاتجاه الردىء يجمعون الملايين من عبث لا يليق، وتغيب عنهم حقيقة انهم يفسدون المجتمع






