إن الأمراض الخبيثة لا تعالج «بإسبرين»، والمشكلة الاقتصادية لا يمكن معالجتها بهبة من هنا وبمخدر من هناك، لأنه – مع تفاقم المرض- ولا «إسبرين» ينفع ولا «مخدر» يُجدى! وإذا كنا جادين فى «كلامنا» عن عدالة اجتماعية فإن ضريبة الثروة يجب أن تكون جزءاً لا يتجزأ من حزمة الإجراءات المطلوبة لإصلاح الاقتصاد المصرى- أتحدث عن ذلك منذ أكثر من عامين محلياً، بالإضافة إلى محاضرتين فى جامعتى «إكسفورد» البريطانية و«هارفارد» الأمريكية، ومقال مطول فى جريدة «االفاينانشيال تايمز»– وأعنى بذلك ضريبة على الثروة لمن تزيد ثروته على 10 ملايين دولار، والتى لا تنطبق على 99.9 % من الشعب المصرى. إن تكلفة الفترة الانتقالية ما زالت تتحملها الطبقة المتوسطة والعاطلين فى هذا الوطن، وذلك بالرغم من أن الطبقة المتوسطة دفعت حوالى 20 – 25% من دخلها فى شكل ضرائب دخل فى آخر 20 سنة، فى حين لم يدفع الأغنياء أكثر من 1% «إن سياسات الدولة الاقتصادية تؤدى إلى أن الدعم يذهب فى غالبيته العظمى للأغنياء والضرائب تدفعها الطبقة المتوسطة!»، إن السبب الرئيسى فى عدم دفع الأغنياء لضرائب هو أن القانون أعفى توزيعات الأسهم والأرباح الرأسمالية من ضريبة الدخل، وفى تقديرى، فإن قيمة الثروات المملوكة لهذه الشريحة (ثروتهم أكثر من 10 ملايين دولار) هى فى حدود 50 مليار دولار، وهو رقم يساوى حجم الدين بالعملة الأجنبية للدولة المصرية، ويتعدى الاحتياطى النقدى للوطن. إن تطبيق ضريبة ثروة لمرة واحدة لمن يتعدى ثروته 10 ملايين دولار سيجلب للدولة ما يقرب من 10 مليارات دولار، أليس هذا أفضل من الاقتراض أو التسول؟. وأضيف، إن هذه الضريبة ليست بدل إفساد، لأن الفساد مجاله مختلف.
وإذا قيل لى إن هذا يخالف صحيح القانون، لأنه يبدو وكأننا نطبق بأثر رجعى، فبنفس المنطق فإن الرئيس الأسبق «مبارك» يستطيع أن يقرر سحب «تفويضه للمجلس الأعلى للقوات المسلحة الممنوح فى 11 فبراير 2011 لإدارة شؤون البلاد» ويعود ليحكم، لأن «عاطى» التفويض يستطيع سحبه أو إلغاءه! التوافق العام يحدد القانون وليس العكس، وعلى العموم، فإذا كانت فكرة تطبيق ضريبة لمرة واحدة ستقابل مشاكل، فقد اقترحت أن تطبق الضريبة بنسبة 2 – 3 % سنوياً لتصبح متكررة، والحصيلة ستكون أكبر على المدى الطويل، كما يمكن معاملة من ترك استثماراته داخل مصر بطريقة مختلفة عن الذى أخرجها (التفاصيل كثيرة ومهمة، ولكن هذا المقال ليس مجالها).
إن تقديم إقرارات ضريبية، التى تشمل إجمالى الدخول المولدة للثروات داخل وخارج البلد، موجود فى معقل الرأسمالية- الولايات المتحدة الأمريكية- فما أطلبه ليس بدعة- ف«بيل جيتس» مثلاً يقدم للحكومة الأمريكية إقراراً سنوياً بدخله داخل وخارج الولايات المتحدة. ومن ناحية أخرى فإن عدداً من رجال أعمال مصر انضموا لعدة وزارات وتقدموا بإقرارات توضح ثرواتهم لجهاز الكسب غير المشروع، فهل نرفض تقديم إقرارات لتنفيذ سياسات العدالة الاجتماعية (ويسمونها محاكم تفتيش) ولكن نقبل أن نقدمها، لأنها تتعلق بالوجود فى الجهاز الحكومى!
سيقال إن حجم التهرب سيكون كبيراً وأنا لا أظن ذلك، لأن البنوك العالمية أصبحت مفتوحة الدفاتر للحكومات، خاصة بعد معارك التهرب الضريبى لبعض البنوك السويسرية، وحتى لو حصلت الدولة على 60 – 70 % من المبلغ المستهدف (أى 6 – 7 مليارات دولار)، أليس هذا أفضل من عدمه؟ إن التهرب الضريبى موجود فى ضريبة المبيعات أو الضرائب على المهن الحرة.. إلخ، فهل سنلغى كل أنواع الضرائب، لأن هناك تهربا من فئة أو أخرى؟ أود أن أسأل السادة القراء إذا كانت لدينا إشارات مرور فى الشارع أم لا؟ إن كسر الإشارات لا يعنى أن تقرر الدولة عدم وضع إشارات مرور. إن الدولة عليها أن تحاول ضبط «كاسرى الإشارات» وليس الاستسهال بإلغاء إشارات المرور! وبنفس المنطق، فإن القول بأن هناك متهربين من نوع من الضرائب لا يعنى إلغاءها أو عدم تطبيقها، ولكن يعنى تحسين وسائل التحصيل.
إن أحد أكبر المغالطات فى هذا الشأن هو القول «ده شركاتى دفعت كذا أو كذا» أو القول «ده أنا عندى كذا موظف مشغلهم، أليس هذا كافياً؟» إن تأسيس الشركات وتوظيف المواطنين هدفه الربح، وليس التبرع حباً للوطن، فعندما تفتح شركة فرعاً فى «تمباكتو» مثلا، وتقوم بتوظيف مواطنى «مالى»، فإن هذا ليس حباً فى هذا الشعب، ولكن الهدف منه هو الربح، وهذا هو هدف مشروع ومطلوب ورائع، ولكنه ليس تبرعاً.
إن الدولة- عن طريق الضرائب على الشركات- تأخذ نسبة من الربح مقابل وجود هذه الشركات على أراضيها والعمل داخل حدودها. وإذا استمررت على مثال «بيل جيتس» فإن شركة ميكروسوفت تدفع ضرائب على الأرباح تتعدى 30% كما أن «بيل جيتس» – المواطن الأمريكى- يدفع ما يتعدى 30% من دخله السنوى فى شكل ضرائب دخل على الفرد، أيضا فى معقل الرأسمالية !
وفى النهاية أود أن أقول فى حديث هامس لبعض الأحبة والأصدقاء والذين انزعجوا من هذا الموضوع إن الوطنية تشمل «المحفظة» ولا تنتهى قبلها!
* المقال للخبير الاقتصادي حسن هيكل نقلا عن جريدة المصري اليوم (http://www.almasryalyoum.com/node/2075106)