شعرت وكأن شيئاً هجم على لحظة خروجى من مطار بيروت.
ولم يكن الهجوم بأسلحة أو رصاصات، وإنما رائحة كريهة تعم المكان وتبعث على الغثيان، إذ تكدست أكوام من القمامة فى شوارع العاصمة اللبنانية بعدما امتلأ المكب الرئيسى على آخره، وأصبحت المدينة والأحياء المحيطة بها عبارة عن مقلب قمامة واحد كبير.
ورغم أننى هربت لبضعة أيام إلى الجبال الهادئة والأكثر نظافة فوق بيروت، إلا أنه لم يكن هناك مهرباً من القمامة والحديث عن القمامة، وسياسات القمامة.
وبعدما غادرت البلد الشهر الماضى، نشبت ثورة قمامة، إذ انقلب آلاف المحتجين من الشباب المحبطين على النخبة السياسية ورفعوا شعار الربيع العربى «الشعب يريد إسقاط النظام».
وقد تبدو الانتفاضة باسم القمامة غير واقعية فى شرق أوسط تمزقه تهديدات أكثر فتكاً، إذ أن لبنان نفسها تنحدر من مشكلات أكثر عمقاً، بعضها من الداخل، والبعض الآخر يأتى من سوريا المجاورة.
وعلاوة على ذلك، كانت مطالب الشباب غير معقولة، فالدولة تعيش فى أزمة دستورية بالأساس، والقصر الرئاسى فارغ بالفعل منذ عام، فإذا ذهبت الحكومة فى ظل عدم وجود رئيس لاختيار مجلس الوزراء الجديد، فستكون النتيجة على الأغلب مزيداً من أكوام النفايات، ولكن رسالة الشباب كانت منتظرة منذ وقت طويل، وكذلك تحركهم.
وفى دولة حيث الهوية الطائفية تتفوق على المصلحة الوطنية، استجابت لنداء حملة «ريحتكم طلعت» جميع الطوائف الدينية بما فى ذلك المسيحيين والسنة والشيعة والدروز، وأىاً ما كانت خلفياتهم، فقد توحدوا فى وجه الفساد والإدارة الطائفية.
وتمثل القمامة بالنسبة لكثيرين، كل شئ عفن فى الدولة اللبنانية، بدءاً من المؤسسات الفاشلة غير القادرة على توفير الخدمات الأساسية، حتى النخبة السياسية الفاسدة التى تحرس المصالح الخاصة.
وتعد ثورة النفايات فى بيروت بمثابة تذكير للعفن الأوسع فى الشرق الأوسط، نظراً لأن الأجزاء الأكثر هدوءاً نسبياً مهددة من قبل الفشل المؤسسى الذى يغذى الاستياء المتزايد.
وفى الأسابيع الماضية، اهتزت المناطق الأكثر استقراراً فى العراق، بما فى ذلك بغداد، باحتجاجات فى الشوارع بسبب الفساد والانقطاع المتكرر للطاقة، وتعد أزمة لبنان متوقعة.
وكان من المفترض أن تكون سهلة الإدارة، فقد امتلأ مكتب العاصمة، لأنه كان يتحمل أكثر من سعته لسنوات، وأكد المقيمون حوله هذا الأمر، ولكن التناحر السياسى شلّ صناعة القرار، وتعثر البحث عن عقود جديدة لإدارة القمامة.
وإذا سألت أى رجل أو إمرأة فى الشارع حول ماهية الخلاف السياسى، فسيقولون، إن الساسة يبحثون عن التربح من العقود ويجادلون بشأن حجم حصصهم.
وبدأ رئيس الوزراء، تمام سلام، الذى يترأس مجلس وزراء عنيداً، يائساً بقدر المحتجين.
وقال إن «القمامة هى القشة التى قصمت ظهر البعير، ولكن القصة أكبر بكثير، فالقصة تتعلق بالنفايات السياسية فى هذه الدولة»، وبعد أسبوع عنيف وتلميحات عن احتمالية استقالة سلام، تسارعت عملية اختيار عقد لإدارة القمامة.
ويوم الإثنين الماضى أعلن وزير البيئة «النهاية السعيدة» لأزمة القمامة، ونشر نتائج ما وصفه بـ«المناقصة الشفافة»، وبحلول اليوم الذى يليه، تبددت النهاية السعيدة، وأعلنت جلسة حكومية فوضوية عن فض العقود بسبب خلافات، وترك بعض أعضاء المجلس الجلسة.
وفى محاولة لإظهار التزامهم بالمصلحة العامة، انتقد وزراء آخرون تكلفة العقود وطالبوا بإعادة فتح العطاءات.
فى غضون ذلك، قررت الحكومة تخصيص 100 مليون دولار لمنطقة عكار الشمالية الفقيرة على أمل أن يشجع الإنفاق العام، المجتمعات هناك على الموافقة على إنشاء مكب نفايات مؤقت فى منطقتهم لإلقاء مخلفات بيروت.
ونستنتج من هذه الفوضى اللبنانية أن القمامة ستبقى، وكذلك اشمئزاز الشعب وثورته.
المصدر- صحيفة «فاينانشيال تايمز»