في أغسطس 1982، أخطر وزير المالية المكسيكي، جيسوس سيلفا هيرتسوج كل من مجلس الاحتياطي الفيدرالي ووزارة الخزانة الأمريكية وصندوق النقد الدولي بأن بلاده لم تعد قادرة على خدمة التزامات ديونها السيادية الهائلة المستحقة في الغالب للبنوك التجارية الأمريكية.
كانت هذه هي بداية أزمة الديون، التي امتدت إلى جزء كبير من أمريكا اللاتينية وأسفرت عن تسمية فترة الثمانينيات بالعقد الضائع للقارة، كما تصاعدت أزمة الديون إلى آسيا وأوروبا الشرقية، وأصبحت في النهاية أشد أزمات الديون السيادية في العالم النامي والناشئ حتى ذلك الحين.
من هذا المنطلق، هل يمكن أن يتجه العالم مرة أخرى إلى سلسلة من أزمات الديون السيادية التي تعيد فترة الثمانينيات إلى الأذهان مرة أخرى؟
يشير البنك الدولي إلى أن الدول النامية في العالم شهدت زيادة في إجمالي ديونها الخارجية التراكمية بنسبة 12% لتسجل بذلك مستوى قياسي قدره 860 مليار دولار في عام 2020.
وعند التفكير في الدول المنخفضة ومتوسطة الدخل، فقد وصل إجمالي الدين الخارجي إلى 8.7 تريليون دولار في عام 2020 وهذه الأرقام زادت فقط خلال آخر عامين اللذان تفشى فيهما الوباء، مما أثر بشدة على اقتصادات الدول النامية.
في عام 2022، من المتوقع أن تواجه أفقر دول العالم ما يصل إلى 10.9 مليار دولار من مدفوعات الديون، مما قد يؤدي إلى موجة من التخلف عن السداد السيادي، مثلما حدث في فترة الثمانينيات.
وتوضح مجلة “نيكاي آسيان ريفيو” اليابانية أن الوضع خطير للغاية لدرجة أن رئيس البنك الدولي ديفيد مالباس حذر من أن “خطر التخلف عن السداد غير المنظم آخذ في الازدياد”.
وفي حديثه في مؤتمر عُقد في واشنطن العاصمة، ذكر مالباس أيضاً أن شركة “مايكروسوفت” تنفق 69 مليار دولار لشراء شركة تصنع ألعاب الفيديو مقابل مساعدة الدول الغنية لأفقر دول العالم التي تبلغ 24 مليار دولار.
وتساءل مالباس: “عليك أن تتساءل، هل هذا هو أفضل تخصيص لرأس المال؟”.
تعتبر سريلانكا الدولة النامية التي تجسد الخطر، إذ نجحت مؤخراً في تجنب الإفلاس من خلال تأمين تمويل طارئ في اللحظة الأخيرة من الهند لسداد سند سيادي حان موعد استحقاقه.
وسريلانكا ليست بأي حال من الأحوال الدولة الوحيدة التي تواجه مشكلة الإفلاس.
وشهدت فترة تفشي الوباء ارتفاعاً حاداً في الديون الصادرة عن الشركات الخاصة في الدول النامية وكذلك الحكومات، وقد تضخم هذا الدين، المستحق لأسواق السندات العالمية، إلى 300 مليار دولار في عام 2021.
مثلما حدث في الثمانينيات، بدأت أزمة الديون المتصاعدة في العالم النامي بمجرد أن بدأت الدول المتقدمة رفع أسعار الفائدة لمكافحة مشكلة التضخم المتزايدة.
في يناير، بلغ تضخم أسعار المستهلكين في الولايات المتحدة 7%، وهو أعلى مستوى مسجل في 39 عاماً. ومن المتوقع رفع أسعار الفائدة الأمريكية في ظل محاولات الاحتياطي الفيدرالي السيطرة على التضخم المتزايد.
مما لا شك فيه أن ارتفاع أسعار الفائدة في العالم المتقدم يخلق مشكلتين رئيسيتين للدول النامية المثقلة بالديون، الأولى تتمثل في ارتفاع تكلفة الفائدة على خدمة الديون المستقبلية التي يتم التعاقد عليها بأسعار فائدة أعلى، مما يزيد العبء على خزائنها المحاصرة.
أما المشكلة الثانية، فهي أن ارتفاع أسعار الفائدة في الدول المتقدمة يرسل إشارة إلى المستثمرين للانسحاب من الاستثمارات ذات المخاطر العالية في العالم الناشئ وسحب أموالهم مرة أخرى وتوجيهها إلى الملاذات الآمنة مثل سندات الخزانة الأمريكية والذهب، التي لا تتحمل مخاطر الأسواق الناشئة، ما يزيد الضغط الهبوطي على أسعار الصرف في الأسواق الناشئة وبالتالي تفاقم تكلفة خدمة الدين.
تمثل أزمة الديون الوشيكة تحدياً وفرصة في الوقت ذاته بالنسبة للصين. فهناك 37% كاملة من مدفوعات خدمة ديون الدول النامية المستحقة للصين خلال العام الحالي، وقد يؤدي هذا إلى زيادة النفوذ الصيني في العالم النامي، لكنه يشكل أيضاً مخاطر من حدوث رد فعل عكسي.
ثمة غضب متزايد في سريلانكا من المدى الذي تتداخل فيه الصين مع البلاد، مما أدى إلى وضع غير عادي للغاية بالنسبة لأحد المسؤولين في الحزب الحاكم والذي ينتقد علناً الحكومة الصينية، ويشكك في صدقها في إقراض سريلانكا، وبالتالي وضع أفقر البلاد في خطر.
هذه الانتقادات من المحتمل أن تكون مدخلاً للهند، التي تعد حليفا لسريلانكا عند نقطة ما، لكن منذ فترة طويلة تفوقت عليها الصين المنافسة باعتبارها أهم مقرض ومستثمر في البلاد.
كذلك، أكد الرئيس السريلانكي جوتابايا راجاباكسا مجدداً أن بلاده ستواصل التطلع إلى الصين للحصول على الدعم، رافضاً الانتقادات الموجهة لتدخل الصين في سريلانكا باعتبارها ذات دوافع سياسية.
الأمر الذي لا شك فيه، أن أزمة الديون السيادية التي تلوح في الأفق في العالم النامي لن تؤدي إلا إلى تفاقم دفع ملايين آخرين- نتيجة تفشي الوباء- في براثن الفقر وتوسيع الفجوات القائمة بين الدول الغنية والفقيرة.
يذكر أيضاً أن الاعتماد على الأموال الرخيصة المقترضة من الخارج، يمكن أن يكون رهاناً سيئاً بدأت العديد من الدول النامية مثل سريلانكا اكتشافه، لأنه يعيد تعلم دروس الثمانينيات بشكل مؤلم.
