أسهمت البيانات الحديثة التى تظهر نمو اقتصاد الهند بنسبة 7.6% للربع الثالث مقارنة بالعام السابق، فى تعزيز التوقعات التى تفيد بأن الهند ستسجل أسرع نمو فى الناتج المحلى الإجمالى بين الاقتصادات الكبرى هذا العام.
بالرغم من ذلك، هناك واقع غير مريح يكمن خلف هذه الحقيقة، وهو أن الهنود الأثرياء يزدادون ثراءً بينما يعانى معظم السكان من التضخم الجامح وسوق العمل الضعيف والقوة الشرائية المتآكلة بسرعة.
وبينما تزداد معدلات التوظيف، فإن معظمها يكون فى قطاع الزراعة والبناء الريفى بدلاً من قطاعات أكثر إنتاجية وأفضل أجراً مثل التصنيع والخدمات الحديثة.
ولا تزال بطالة الشباب مرتفعة بشكل خطير، وإذا لم تتم معالجتها، فقد تتحول إلى كارثة ديموغرافية وتحفز الاضطرابات الاجتماعية، كما لا تزال مشاركة المرأة فى القوة العاملة مثيرة للسخرية، حسب ما أوضحته مجلة “نيكاى آسيان ريفيو” اليابانية.
فى وقت تعمل فيه الشركات الكبيرة بشكل جيد، تتعامل الشركات الهندية الأصغر حجمًا مع تقلص حصتها فى السوق وزيادة الأعباء البيروقراطية مع عدم الاستفادة من التخفيضات فى ضرائب دخل الشركات أو برنامج الحكومة السخى لدعم الحوافز المرتبطة بالإنتاج للمصنعين.
ويعاقب الارتفاع المطرد فى عوائق الاستيراد، الذى يهدف أيضًا إلى دعم الشركات المصنعة، الشركات وكذلك الأسر من خلال زيادة التكاليف.
فى الوقت نفسه، يتزايد تركيز السوق فى غياب الوسائل التنظيمية الفعالة للمنافسة، وكذلك بسبب سياسة الحكومة لتعزيز كبار المصنعين الوطنيين.
ونتيجة لذلك، فإن الشركات الكبرى تسيطر على المدخلات الصناعية الأساسية مثل ألياف الصلب والمنسوجات أو البنية التحتية الرئيسية، بما فيها الموانئ والمطارات، وتستغل قوتها السوقية، الأمر الذى يفاقم ضغوط التكلفة على الشركات الصغيرة والمستهلكين.
نتيجة لذلك، فإن ضعف الأرباح أعاق الكثير من الشركات عن إعادة الاستثمار فى عملياتها.لا غرابة فى أن بيانات بنك الاحتياطى الهندى تظهر أن ثلاثة أرباع الإقراض للاستثمار الرأسمالى يذهب إلى قطاعى البنية التحتية والمعادن، بالنظر إلى الضغط الذى تتعرض له الصناعات الأخرى.
فى الوقت نفسه، فإن العبء الضريبى المتزايد، والذى يأتى فى شكل ضريبة الدخل الشخصى وضريبة السلع والخدمات وضريبة الوقود، يجعل الأسر أكثر عرضة للضغوط من الناحية المالية.
وتزداد الحاجة لهذه الأموال لسد فجوة الميزانية الناتجة عن الهبات الشعبوية والمزايا للشركات الكبيرة، وهذا يزيد من تفاقم عدم المساواة الاقتصادية حيث تُفرض ضرائب أقل على الأرباح الرأسمالية من دخل الأجور.
كما أن زيادة الإنفاق الحكومى على البنية التحتية أمر مرغوب فيه، لكنها تُرجمت إلى إنفاق أقل على تحسين الرعاية الصحية والتعليم، مما أجبر جميع الأسر على الاعتماد بشكل أكبر على خيارات القطاع الخاص باهظة الثمن نسبيًا.
بالتالى، وسط تركيز سياسات الحكومة المستمر على قضايا العرض، ليس لدى معظم الهنود الكثير لينفقوه على السلع والخدمات، مما يفاقم تباطؤ الطلب الإجمالى وبالتالى يجعل الزخم الاقتصادى للبلاد أكثر هشاشة مما قد يبدو لأول مرة.
ويحب مؤيدو الحكومة تسليط الضوء على العلامات الخارجية للطلب القوى، فرحلات الخطوط الجوية ممتلئة ومراكز التسوق تمتلئ عن آخرها، ومبيعات المنازل والسيارات الفاخرة تعمل بشكل جيد، كما تحقق “شركة الهند” أرباحًا قياسية ولا تزال مجموعة ضريبة السلع والخدمات قوية.
وبالرغم من احتمالية نمو مبيعات المنازل والسيارات الفاخرة، تظل المبيعات منخفضة بالنسبة لبلد يحوى ناتجًا محليًا إجماليًا قدره 3.5 تريليون دولار وعدد سكانه 1.4 مليار نسمة، خاصة بالمقارنة مع الأرقام القابلة للمقارنة فى الصين.
جدير بالذكر أنه فى العام الماضى، باعت “مرسيدس بنز” ما يصل إلى 751 ألف سيارة فى الصين، و15.8 ألف فقط فى الهند.
والأهم من ذلك أن مبيعات السيارات الصغيرة والمنازل ذات الأسعار المعقولة فى الهند ليست على ما يرام.
فى الشهر الماضى، مثلاً، باعت “ماروتى سوزوكى”، أكبر شركة لتصنيع السيارات فى البلاد، سيارات مدمجة أقل بنسبة 11% مما باعت فى نفس الشهر من العام الماضى، لكن مبيعاتها من سيارات الدفع الرباعى ارتفعت بنسبة 50%.
يعتمد نهج “مودينوميكس” بشكل كبير على الشركات الكبرى التى توفر النمو الاقتصادى والوظائف لملايين الشباب، لكن هذه الاستراتيجية ذات آثار متفاونة للغاية نظرًا لتفاوت مستويات التنمية عبر المناطق والسكان المتنوعين فى الهند.
وتمثل المناطق المرتفعة اقتصاديًا فى غوجارات ومهاراشترا وكارناتاكا وتاميل نادو وتيلانجانا ودلهى ما يصل إلى 85% من الصادرات والاستثمار الأجنبى المباشر الوارد، ما يحفز الهجرة على نطاق واسع إلى المدن الصاخبة مثل بنغالورو ونيودلهى ومومباى، وهذا بدوره يضغط على البنية التحتية ويخلق فوضى بيئية ويتسبب فى ارتفاع تكاليف الإسكان والنقل والتعليم والرعاية الصحية.
يعتمد النهج الذى يتبناه رئيس الوزراء ناريندرا مودى على الإصلاحات لتسهيل ممارسة الأعمال التجارية الناشئة عن البيروقراطية الهندية المبالغ فيها، لكن الإصلاح الحقيقى المطلوب هو تقليص حجم البيروقراطية والسلطة التقديرية.
وأدت جهود الحكومة لزيادة الإيرادات الضريبية إلى زيادة متطلبات الإيداع والضرائب للشركات الصغيرة، ثم أصبح من الضرورى إنفاق المزيد من الوقت والمال على الاستشاريين والمحاسبين وفى كثير من الأحيان، رشاوى للمفتشين، وهذا يقوض الأعمال الحرة بشكل مباشر وبالتالى يضر بفرص العمل.
لم يفت الأوان بعد على الحكومة لتتمكن من تغيير مسارها، إذ يجب أن تركز نيودلهى على معالجة أسباب المشاكل الشائعة التى تواجهها جميع أنواع الشركات، بدلاً من اختيار الشركات الناجحة فى قطاع التصنيع الذى لا يولد حتى 20% من الناتج المحلى الإجمالى للبلاد.
ولعبت الحكومة دورًا جيدًا للسيطرة على عجز الميزانية الحكومية وضمان استقرار الاقتصاد الكلى، لكنها فشلت فى خفض الضغط التنظيمى الذى يثبط ريادة الأعمال وخلق فرص العمل، والتى تعد ضرورية لتحسين نمو الناتج المحلى الإجمالى.
لا شك أن ترشيد التنظيم من شأنه إفساح المجال للشركات الصغيرة للتركيز على تنمية حجم الأعمال التجارية، نظرًا لأن عملياتها تميل إلى أن تكون كثيفة العمالة أكثر من تلك الخاصة بالشركات الكبيرة، فقد يوفر ذلك دفعة كبيرة لخلق فرص العمل دون أى إعانات أو إعفاءات ضريبية.
كما أن تقليص الفجوة بين معدلات ضريبة الدخل على الشركات والدخل الشخصى سيساعد أيضًا فى دعم الشركات الصغيرة ويعزز الطلب.
ما تحتاجه الهند حقًا هو مسار نمو شامل ومستدام بإمكانه تعزيز الازدهار المشترك عبر جميع قطاعات الاقتصاد بدلاً من استفادة قلة متميزة فقط.