أغلب الاقتصادات الناشئة تكافح للعيش فى حدود إمكانياتها، فيما تسعى الصين جاهدة للوفاء بها، وحتى فى أفضل الأوقات، فإن الإنفاق المشترك لأسرها وشركاتها وحكومتها لا يكفى لشراء كل ما يمكنها إنتاجه، مما يترك فائضاً يجب تصديره، فقد حققت البلاد فائض تجارى لمدة 34 عاماً من الأعوام الـ40 الماضية.
وهذه ليست أفضل الأوقات، حيث تعانى الصين من أطول فترة من الانكماش منذ الأزمة الآسيوية قبل أكثر من ربع قرن، كما أدت الهزيمة فى سوق الأسهم منذ أواخر 2022 إلى خسارة المستثمرين 2 تريليون دولار.
ووراء هذا الذعر يكمن خوف أعمق بين المستثمرين والمسؤولين، وهو أن الصين لم يعد لديها محرك يمكن الاعتماد عليه للنمو، فقد انتهت الطفرة العقارية، ويخشى المطورون الذين يعانون من ضائقة مالية بناء منازل، وتخشى الأسر شرائها.
كذلك، انتهى الهوس بالبنية التحتية، فالحكومات المحلية المثقلة بالديون تفتقر إلى الأموال، كما تزداد صعوبة تصدير السلع إلى بقية العالم، والتى اعتمدت عليها الصين لعقود للهروب من الفقر، مع تزايد الحمائية وحذر الدول الغربية من الاعتماد على الدول الاستبدادية، وبالتالى، فإن الكثير يعتمد على مصدر واحد متبقى للنمو، وهو تعزيز إنفاق سكان الصين البالغ عددهم 1.4 مليار نسمة.
قال لى تشيانج، رئيس الوزراء الصينى، فى المنتدى الاقتصادى العالمى فى دافوس الشهر الماضى، إن “السوق الصينية، بمساحتها الواسعة وعمقها المتنامى، ستلعب دوراً مهماً فى تعزيز الطلب العالمى الإجمالى”، كما تضمنت مراجعة صندوق النقد الدولى الجديدة لآفاق الصين، والتى نُشرت فى 2 فبراير، 61 إشارة إلى كلمة “الاستهلاك”.
لاشك أن هدف زيادة الاستهلاك منطقى، فغالباً ما يفضل المستهلكون البخلاء فى الصين الادخار، وليس الإنفاق.
ويمثل الاستهلاك 53% من الناتج المحلى الإجمالى، مقارنة بـ72% فى العالم، وعلى هذا المقياس، تحتل الصين المرتبة 156 من بين 168 دولة.
وكانت مساهمتها غير المتوازنة الناتجة عن ذلك فى الاقتصاد العالمى صارخة، فهى تمثل 32% من الاستثمار العالمى و18% من الناتج المحلى الإجمالى، لكنها تمثل 13% فقط من الاستهلاك، وفقا للاقتصادى مايكل بيتيس.
وحتى بين الاقتصادات الناشئة، تبرز الصين، فقد كان استهلاك الفرد الواحد أقل بنسبة 7% من استهلاك البرازيل فى عام 2022، على الرغم من أنها أنتجت نحو 40% أكثر.
ما هى احتمالات ارتفاع الاستهلاك لإنقاذ الصين؟
ثمة خبر سار هو أن عام 2023 أظهر بعض التعافى حيث سمحت نهاية القيود الوبائية للناس بالعودة إلى المطاعم والمحلات التجارية والسفر، ونتيجة لذلك ارتفع الاستهلاك ليمثل أكثر من 80% من النمو، وهى الحصة الأكبر منذ عام 1999.
أما النبأ السيئ هنا هو أن احتمالات التغيير التدريجى تبدو ضئيلة، استناداً إلى المزاج العام، والاعتبارات الحسابية عبر البلاد، وتاريخ الصين.
لنبدأ الحديث أولاً عن المزاج العام.. فقد أدى الاضطراب فى سوق العقارات إلى الإضرار بدخل وأصول ومعنويات الصينيين العاديين، وينعكس هذا المزاج فى التوقعات، حيث يتوقع صندوق النقد الدولى تباطؤ نمو الاستهلاك خلال 2024.
ثم فكر فى الاعتبارات الحسابية عبر البلاد.. فحتى لو أفلتت الصين من الانكماش هذا العام، فإن المحور المطلوب على المدى الطويل سيكون أمراً شاقاً، حيث يجب أن يرتفع الاستهلاك بنحو 10% من الناتج المحلى الإجمالى لتتمكن الصين من إعادة توازن اقتصادها بنجاح.
وأخيرًا، لنتأمل تاريخ الصين.. فقد تحدث صُناع السياسات فى الصين عن إعادة التوازن إلى الاقتصاد نحو الاستهلاك، وبعيداً عن الصادرات والاستثمار، طيلة 20 عاماً تقريباً، منذ انعقاد مؤتمر اقتصادى رئيسى فى نهاية 2004، حيث كانت حصة الاستهلاك من الناتج المحلى الإجمالى آنذاك نحو 55%، وهى نفس النسبة الحالية تقريبًا، ويبدو أن الحديث عن إعادة التوازن أسهل من الفعل، ومع ذلك، ليس لدى الصين خيار سوى المحاولة، فأحد خياراتها هو الترويج لثقافة استهلاكية جديدة.
تحدث رئيس الوزراء لى، فى خطابه فى دافوس، عن اتساع نطاق شراء السلع باهظة الثمن، مثل السيارات الكهربائية، فضلا عن المنتجات المتخصصة بما فيها المنازل الذكية، وتذاكر الأحداث الرياضية و”السلع الصينية الأنيقة”.
ويستطيع زعماء الصين العمل على تحفيز الاستهلاك من خلال تقديم المساعدات القصيرة الأجل للأسر، لكن يبدو أنهم ينظرون إلى مثل هذه الصدقات على أنها غير فعالة، أو مضيعة للوقت، أو ما هو أسوأ من ذلك، أى دعوة للكسل.
وهذا يعنى أن الوسيلة الأكثر منطقية تتلخص فى جعل المواطنين يشعرون بقدر أكبر من الأمان المالى، حتى يتسنى لهم الادخار بشكل أقل والإنفاق أكثر.