ثمة العديد من الأسباب التي تجعل محافظي البنوك المركزية واللاعبين الماليين يتمنون رؤية عالم لا يشكل فيه الدولار الأمريكي العملة الاحتياطية الرئيسية الوحيدة في العالم.
وهذا ينطبق بشكل خاص على الأسواق الناشئة الآسيوية، التي شهدت معظمها تدفق رؤوس الأموال العالمية إلى الولايات المتحدة في الأعوام الأخيرة، رغم أن آفاق النمو الاقتصادي في المنطقة لا تزال مشرقة نسبيًا.
كتب استراتيجو العملات لدى “بنك أوف أمريكا” في مذكرة حديثة للعملاء: “لسنا متفائلين بشأن أي عملة في آسيا”.
ويتوقع فريق البنك أن ينخفض الدولار التايواني والوون الكوري الجنوبي بشكل أكبر مقابل الدولار الأمريكي.
ونظراً للفجوة في أسعار الفائدة بين الصين والولايات المتحدة، فقد توقعوا أن ينخفض اليوان، الذي يبلغ سعره الآن 7.26 مقابل الدولار، إلى 7.35 قريباً وإلى 7.45 بحلول سبتمبر.
انخفض الين الياباني في الأسابيع الأخيرة إلى مستويات لم يشهدها منذ أكثر من ثلاثة عقود حتى مع بدء بنك اليابان أخيرا في التراجع عن سياسته النقدية فائقة التساهل مع استمرار الضغوط التضخمية.
لكن آسيا ليست وحدها، فهناك قلق حتى بين حلفاء الولايات المتحدة بشأن عمق الطلب الأجنبي على سندات الخزانة الأمريكية، إذ بلغ عجز الميزانية الأمريكية 1.68 تريليون دولار العام الماضي ويتوقع كثيرون أن يرتفع أكثر.
كما أن احتمالية عودة دونالد ترامب، المرشح المفترض للحزب الجمهوري، إلى الرئاسة تثير أيضًا القلق بشأن استقرار أسعار الصرف، حسب ما نقلته مجلة “نيكاي آسيان ريفيو” اليابانية.
دفع ترامب مرارًا الجمهوريين في الكونجرس لتبني التخلف عن سداد الديون كخيار مقبول للحكومة الأمريكية.
بالإضافة إلى ذلك، يُقال إن مستشاريه الاقتصاديين يطورون خططًا لخفض قيمة الدولار لتعزيز الصادرات، بينما يخططون أيضًا لمعاقبة الدول التي تتحول إلى إجراء التجارة بعملات أخرى وتقديم مقترحات لتقييد قدرة الاحتياطي الفيدرالي على تحديد أسعار الفائدة بشكل مستقل.
إذا لم تكن مثل هذه الأفكار كافية لإحداث تغيير جذري في إدارة محافظي البنوك المركزية للنقد الأجنبي، فإن التحركات التي اتخذتها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي لتجميد 300 مليار دولار من أصول البنك المركزي الروسي عقب الحرب الروسية الأوكرانية أبرزت مخاطر أخرى.
لم تؤدي العلامات الأخيرة على أن الحكومات الغربية قد تبدأ في إنفاق أو تحويل الأموال الروسية المجمدة، أو على الأقل الفوائد المتراكمة عليها، إلا إلى تفاقم الشعور بالقلق.
ومع ذلك، تبدو عملية التخلص من الدولار بعيدة كما كانت دائمًا، ويرجع ذلك بشكل كبير إلى غياب أي بديل مقنع.
لفترة وجيزة، بدا أن اليوان قد يتحدى “الامتياز الباهظ” الذي تتمتع به الولايات المتحدة بفضل مكانة الدولار كعملة احتياطية رئيسية في العالم.
أحرزت الجهود الرامية إلى تشجيع استخدام اليوان في التجارة بعض التقدم، خاصة منذ اندلاع الحرب في أوكرانيا، لكن بينما كانت البنوك المركزية الأخرى متحمسة لإضافة اليوان إلى احتياطياتها من النقد الأجنبي قبل بضعة أعوام، وأدرج صندوق النقد الدولي اليوان في سلة عملات حقوق السحب الخاصة، فإن الاهتمام الأوسع يتضاءل الآن.
يقول مسؤول سابق في صندوق النقد الدولي على دراية عميقة ببكين، إن “نظام الحكم التكنوقراطي في الصين، الذي انتشل الناس من الفقر، ليس مشابهًا للوضع الذي نحن فيه في الصين اليوم.. فالأبواب تغلق”.
تعد المخاوف من هروب رؤوس الأموال السبب الرئيسي وراء ذلك، فتصميم بكين على منع تدفق الأموال إلى الخارج يعني أن الجهود المبذولة لتخفيف ضوابط رأس المال لن تسفر عن نتائج كبيرة في أي وقت قريب.
وتقلصت فئة ميزان المدفوعات المعروفة باسم “الأخطاء والسهو”، والتي كانت توضح مقياس هروب رأس المال من الصين، بشكل كبير في الأشهر الأخيرة.
كما لم تخفف الصين بشكل كامل القيود الصارمة التي فرضتها على السفر الدولي لشعبها خلال الوباء، ويرجع ذلك جزئيًا على الأرجح إلى أنه من الأسهل بكثير نقل الأموال عند التواجد في الخارج وليس داخل البلاد، فالأشخاص الراغبين في المغادرة يأخذون معهم أكبر قدر ممكن من أموالهم.
ومع تحول بكين على نحو متزايد إلى الداخل، تضاءلت بشكل مطرد مكانة وقوة بنك الشعب الصيني في الداخل.
يقول إسوار براساد، أستاذ التجارة بجامعة كورنيل الذي كان يرأس في السابق قسم الصين في صندوق النقد الدولي: “تعرض بنك الشعب الصيني لبعض الصدمات”.
وفي غياب تحدي كبير من عملة رسمية أخرى، من المرجح أن تكون السبل الأكثر احتمالًا لعدم الرضا عن الدولار هي العملات الرقمية والذهب.
وفي الوقت نفسه، دعا بعض المسؤولين الحاليين والسابقين في بنك الشعب الصيني، إلى جعل حقوق السحب الخاصة لصندوق النقد الدولي أكثر سيولة لتمكين استخدامها بشكل أوسع دوليًا، كما دعا رئيس الوزراء الماليزي أنور إبراهيم إلى بذل جهد إقليمي لاستخدام العملات المحلية في التجارة.
على أي حال، فإن تجارب البنوك المركزية في إنشاء العملات الرقمية وخدمات شركات التكنولوجيا المالية الناشئة التي تسعى إلى تجاوز القنوات المعتادة للنظام النقدي الدولي ستبدأ في التأثير بشكل أوسع فقط بعد المزيد من التطوير والاستخدام.
تاج الدولار ليس في خطر في أي وقت قريب، لكن البحث عن بدائل سيستمر.