عاد العالم النامي ليعتمد على التخطيط الاقتصادي.
ومع انتشار الحمائية في الغرب، لم تعد البلدان الفقيرة تخشى السياسة الصناعية أو الطموحات الجريئة، إذ أعلنت حكومة الهند أن الصناعة ستدفع البلاد نحو وضع الدخل المرتفع بحلول 2047.
وتريد إندونيسيا الوصول إلى هذا الهدف بحلول 2050 مع نمو يعتمد على السلع الخضراء، فيما تستهدف فيتنام تحقيق نمو سنوي في الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 7% حتى 2030.
وفي الوقت نفسه، ترغب جنوب أفريقيا في زيادة دخلها للفرد بأكثر من ضعفين مقارنة بـ2021.
وهذا كله يوضح أن الاقتصادات في كل مكان تبدو وكأنها على وشك التسارع، لكن تقريرا جديدا من البنك الدولي أوضح أن الأمر ليس كذلك.
فوفقًا لمعدلات النمو الحالية، ستستغرق الهند 75 عاما أي ثلاثة أرباع قرن للوصول إلى ربع دخل الفرد في الولايات المتحدة.
وهذا هو أحد الحسابات الواردة في “تقرير التنمية العالمية”، الصادر في الأول من أغسطس، إذ أجرى باحثو البنك الدولى إحصاءات 108 اقتصاد من الاقتصادات متوسطة الدخل، والتي تمثل 40% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي و75% من سكان العالم.
ويجادل إنديرميت جيل، كبير اقتصاديي البنك الدولي، وسوميك لال، أحد مستشاريه، ومؤلفين مشاركين في التقرير، بأن الاتجاه نحو السياسة الصناعية، خاصة كما هو مطبق في الهند وإندونيسيا، لن يحقق على الأرجح الثروات التي يحلم بها الساسة الآن.
ويبدأ التقرير بطرح التحدي، فمنذ 1990، نجحت 34 دولة فقط في الوصول إلى وضع الدخل المرتفع، من بينها 13 دولة في الكتلة الشرقية واستفادت من الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، فيما يدين عدد آخر في الخليج وأمريكا اللاتينية بثروته لازدهار السلع.
ظل الدخل الفردي في البلد المتوسط الدخل أقل من عُشر نظيره الأمريكي منذ السبعينيات، حسب ما أوضحته مجلة “ذا إيكونوميست” البريطانية.
وإذا كانت الهند ترغب في الحفاظ على نمو بين 6% و8% سنويًا، فإنها ستكرر إنجازًا لم تحققه سوى كوريا الجنوبية.
يعتقد خبراء الاقتصاد في البنك الدولي أن مثل هذا النمو غير واقعي، ويزعمون أن الحكومات ستكون أفضل حالاً إذا سعت إلى الحفاظ على نمو أبطأ لفترة أطول.
يقترح جيل والمؤلفون المشاركون ثلاثة أهداف، وهي أن تصبح أكثر جاذبية لرأس المال، وتحسين استخدام التكنولوجيا الحالية، وتطوير تكنولوجيا جديدة.
وهذا ليس ابتكارًا جديدًا، لكن ما هو جديد هو اقتراح جدول زمني يجري من خلاله قياس تقدم الدول ذات الدخل المتوسط.
يُعتقد أن البرازيل، على سبيل المثال، كانت على المسار الصحيح حتى أصبحت دولة ذات دخل متوسط منخفض في السبعينيات.
عند تلك المرحلة، كان ينبغي عليها التركيز على استيراد التكنولوجيا الأجنبية وإدخال الشركات المملوكة للدولة إلى الأسواق الدولية، لكنها بدلاً من ذلك، فرضت ضرائب على الملكية الفكرية الدولية، أصبحت براءات الاختراع المحلية أكثر شيوعًا، لكن جودة الابتكار تراجعت.
وفي الوقت نفسه، نجحت بلغاريا في دمج التكنولوجيا الحالية في الإنتاج المحلي، لكن البحث والتطوير الخاص بها لا يزال ضعيفًا.
وينتقد المؤلفون الدول التي تأمل في تخطي المراحل من خلال تطوير التكنولوجيا المحلية بدلاً من نشر التقنيات المستخدمة في أماكن أخرى.
فمثل هذا النهج يهدد بإهدار الموارد النادرة، وسيكون الباحثون مشغولون بمنتجات غير جيدة، وستكون البيروقراطية الحكومية مثقلة، وستُوجه الأموال إلى شركات غير منتجة.
ويشير التقرير إلى أن السياسة الصناعية لكوريا الجنوبية دعمت تبني التكنولوجيا الأجنبية بدلاً من تحفيز إنتاج المعرفة على حدود الفكر البشري.
تهدف استراتيجية “اصنع في الهند”، التي يتبناها رئيس الوزراء مودي ناريندرا، إلى جذب الشركات الأجنبية لتصنيع كل شيء من الهواتف إلى السيارات الكهربائية، وهذا أفضل من الخطط في البلدان النامية الأخرى.
تقدم ماليزيا إعانات للشركات الناشئة الراغبة في تجربة الحوسبة السحابية.
وتخفض إندونيسيا بعض تكاليف السيارة الكهربائية، لكن فقط إذا كان عدد كافٍ من مكوناتها مصممًا محليًا.
لكن ثمة خطر أن تسير الهند في نفس الاتجاه، حيث تسعى جوانب أخرى من السياسة الصناعية للبلاد إلى تعزيز التكنولوجيا المحلية، بما فيها في الرقائق والدفاع.
منذ 2020، حظرت الدولة استيراد 509 مكونات دفاعية شائعة كجزء من محاولة لتعزيز صادرات الأسلحة المحلية.
ومع ذلك، خرجت البلاد من قائمة أكبر 25 مصدرًا للأسلحة.
كذلك، تتعرض ممارسات الإدارة في الهند للنقد اللاذع.
ورغم أن البنك الدولي عادةً ما يلتزم بالاقتصاد الكلي التقليدي، يستخدم مؤلفو التقرير إطارًا قريبًا من إطار عالم الاقتصاد شومبيتر، حيث يعتبرون أن الشركات القائمة يمكن أن تكون فعالة، لكن فقط إذا كانت محاطة بوافدين جدد يحفزونها.
تمنع الدولة الهندية هذا على جانبي الطيف، إذ تضمن قوانين الاحتياطيات الصغيرة حصة من المساعدات للشركات الصغيرة غير الفعالة.
وفي الوقت نفسه، تعزز المحسوبية وسوء سياسة المنافسة الشركات العملاقة غير المنتجة.
ومن المعتاد أن تزيد الشركة في أمريكا التي جرى تأسيسها قبل 40 عامًا، حجمها سبعة أضعاف، لكن في الهند لن يزداد حجمها سوى بمقدار الضعف.
ليست كل وصفات البنك الدولي تتحمل التدقيق، فتحسين التعليم هو هدف جدير بالاهتمام، وإن كان صعبًا بشراسة.
كما أن إبقاء الشعبوية تحت السيطرة، وهو هدف مدرج أيضًا في القائمة، يعتبر اقتراحا جميلا .. لكنه صعب.
ويبالغ التقرير في تعاطفه مع السياسة الصناعية لكوريا الجنوبية.
ومع ذلك، من المؤكد أن الكثير من ازدهار البلاد جاء من الاستثمار الخاص الكبير والانفتاح على التكنولوجيا الأجنبية.
لم يتمكن رئيس الوزراء مودي من تحفيز الاستثمار في القطاعات التي يريد فيها أن تنتج الهند إنجازاتها الخاصة.
لكن الخطر هنا هو أن البلاد قد تجد مع مرور الوقت صعوبة أكبر في تنمية الصناعات التي تنافس الصناعات الأمريكية، إذا ما أقدمت على هذه الخطوة قبل أوانها.
ولحسن الحظ، أننا لم نخسر كل شيء بعد، فوفقًا لحسابات البنك الدولي، لا يزال لدى صناع السياسات ثلاثة أرباع قرن على الأقل لتصحيح الأمور.








