تشهد أسواق العمل في العديد من الاقتصادات الكبرى، حالة جمود وسط ازدياد انعدام اليقين بشأن التجارة والضرائب والذكاء الاصطناعي، ما يدفع أصحاب العمل إلى تأجيل قرارات التوظيف أو التسريح، ويدفع الموظفين إلى التمسك بوظائفهم الحالية.
وأظهرت البيانات الرسمية أن معدل نمو التوظيف السنوي في الولايات المتحدة بلغ 0.5% فقط، و0.4% في بقية اقتصادات مجموعة السبع خلال الأشهر الثلاثة المنتهية في يوليو، وهو مستوى أدنى بكثير من معدلات عام 2024.
وبدلًا من تقليص عدد العاملين، يبدو أن الشركات تحافظ على حجم القوى العاملة لديها، لكنها تُبطئ وتيرة التوظيف في وقت يهدد فيه الذكاء الاصطناعي بإعادة تشكيل أسواق العمل، بينما تثير حرب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب التجارية مخاوف من تباطؤ النمو العالمي.
وقال سايمون ماكآدام، نائب كبير الاقتصاديين في شركة “كابيتال إيكونوميكس”، إن نمو التوظيف يُعد “أحد أبرز نقاط الضعف في الاقتصادات المتقدمة”.
في الولايات المتحدة، كاد نمو الوظائف يتوقف خلال الصيف، إذ فقد أكبر اقتصاد في العالم بعض الوظائف في يونيو، بحسب ما نقلته صحيفة “فاينانشيال تايمز” البريطانية.
حالة الجمود تصعب دخول الشباب سوق الوظائف رغم غياب مؤشرات التسريح الواسع
وباستثناء اليابان، تباطأ نمو التوظيف في بقية اقتصادات مجموعة السبع خلال السنوات الماضية، خصوصاً في المملكة المتحدة، حيث انخفض عدد العاملين المسجلين في كشوف الرواتب بنحو 0.5% خلال العام الماضي.
وقال رئيس الاحتياطي الفيدرالي جيروم باول الشهر الماضي: “نحن في اقتصاد منخفض التوظيف منخفض التسريح”، مضيفاً أن الاقتصاد الأمريكي يمر بفترة تغيرات واسعة النطاق، وأن الشركات تترقب “كيف ستستقر الأمور”.
وبجانب تردد أصحاب العمل في التوظيف أو التسريح، أشار خبراء التوظيف إلى أن المرشحين أنفسهم يشعرون بالتردد في تغيير وظائفهم.
وقال جيمس هيلتون، المدير المالي لمجموعة التوظيف البريطانية “هايز”، إن التراجع في الأسواق الرئيسية يعكس حذر أصحاب العمل، وكذلك مخاوف المرشحين من فقدان ترتيبات العمل الهجينة التي حصلوا عليها بعد جائحة “كوفيد-19” في حال غيروا وظائفهم.
وأضاف أن “الشركات تستغرق وقتاً أطول في التوظيف وتقدم زيادات أقل في الأجور، بينما يقلق المرشحون بشأن الأمان الوظيفي، وفقدان المرونة في العمل، أو اضطرارهم إلى تنقلات أطول”.
ويمثل جمود سوق العمل تحدياً خاصاً للشباب الذين يسعون لبدء حياتهم المهنية، لكن رغم ذلك لا توجد مؤشرات على فقدان واسع للوظائف.
لا تزال معدلات البطالة عند مستويات منخفضة قياسية في معظم دول منطقة اليورو، ولم ترتفع إلا بشكل طفيف في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وألمانيا.
وحتى في هذه الدول، تشير بعض الشركات إلى استمرار نقص العمالة.
ويكافح صُناع السياسات النقدية لمعرفة ما إذا كانت أسواق العمل راكدة بسبب ضعف الطلب، أم بسبب عوامل تمس جانب العرض مثل العمر والصحة والسياسات المتعلقة بالهجرة وتغيّر أنماط الحياة.
بيانات “لينكد إن” تكشف تراجع التنقل الوظيفي في الاقتصادات المتقدمة بعد جائحة كورونا
وفي الولايات المتحدة، يرى كل من كريستوفر والر وميشيل بومان، وهما من محافظي “الاحتياطي الفيدرالي” الذين دعوا إلى خفض الفائدة في وقت مبكر، أن هناك مؤشرات على ضعف كبير.
وقالت بومان الأسبوع الماضي: “أشعر بالقلق من أن سوق العمل قد تدخل مرحلة هشة، وهناك خطر من أن تؤدي أي صدمة إلى تدهور مفاجئ وكبير”.
لكن أوستن جولسبي، رئيس بنك الاحتياطي الفيدرالي في شيكاغو، حذّر من أن ضعف نمو الوظائف لا يمثل بالضرورة إشارة سلبية للبنك المركزي.
ومع بقاء البطالة منخفضة عند 4.3%، قد يعكس الأمر، بحسب قوله، حملة ترامب ضد الهجرة وتقاعد أعداد كبيرة من جيل “طفرة المواليد”، أكثر مما يعكس ضعفاً في الطلب.
وتُظهر بيانات شبكة “لينكد إن” المهنية صورة متسقة لانخفاض معدل التنقل الوظيفي في العديد من الاقتصادات المتقدمة، إذ انخفضت نسبة الأعضاء الذين أضافوا صاحب عمل جديداً إلى ملفاتهم الشخصية بنحو الخُمس مقارنة بما قبل الجائحة في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وكندا وأستراليا، وهي أقل من ذلك في فرنسا، ومتراجعة بنحو 15% في ألمانيا.
وقال كوري كانتينجا، رئيس قسم الاقتصاد لمنطقة الأمريكيتين في “لينكدإن”، إن العديد من الدول لا تزال تعاني “ارتدادات ما بعد الجائحة”، التي تسببت في موجة توظيف واسعة تلتها حالة من التباطؤ بعد رفع البنوك المركزية أسعار الفائدة لمواجهة التضخم المرتفع.
وأوضح ماكآدام أن أسواق العمل في معظم الدول لا تزال “في طور العودة إلى طبيعتها” أكثر من كونها “مؤشراً على ركود اقتصادي واسع”، مشيراً إلى مجموعة من العوامل الخاصة بكل دولة، مثل الضغوط الضريبية في المملكة المتحدة، والجمود السياسي في فرنسا، والتحديات الهيكلية التي تواجه الصناعة الألمانية، وتأثير الرسوم الجمركية على قطاعي التوزيع والتصنيع في الولايات المتحدة.
وقال ستيفانو سكاربيتا، مدير إدارة التوظيف والعمل والشؤون الاجتماعية في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، إن اللافت هو بقاء معدلات التوظيف مرتفعة واستمرار نقص العمالة رغم فترة طويلة من النمو البطيء وعدم اليقين المرتفع.
وأوضح أن أحد الأسباب الكبرى وراء انخفاض حركة التنقل بين الوظائف هو العامل الديموغرافي، قائلاً: “نعلم أن العمال الأكبر سناً أقل ميلاً إلى التنقل… فهم أكثر استقراراً، وأقل رغبة في الانتقال جغرافياً، وقد يجدون صعوبة في التفاوض على رواتب أعلى في وظائف جديدة إذا كانوا يمتلكون الخبرة دون تعليم رسمي”.
وأضاف: “جميع الدول الأوروبية تشهد شيخوخة سكانية، والتنقل يتأثر بهذه الشيخوخة”.








