استمرار البيع للعالم دون إظهار استعداد للشراء يجعل مستقبل التجارة العالمية أكثر هشاشة وتقلباً
تتزايد المؤشرات على أن الصين تتجه نحو نموذج اقتصادي يقوم على تعزيز الاكتفاء الذاتي وتقليص اعتمادها على الواردات، في تحول يثير قلق الشركاء التجاريين حول العالم.
فبينما يُفترض أن يقوم النظام التجاري الدولي على تبادُل القيمة بين الدول، يظهر أن الصين أصبحت أقل اهتماماً بشراء السلع والخدمات الأجنبية وأكثر تركيزاً على تطوير بدائل محلية في كل القطاعات تقريباً.
تاريخياً، اعتمدت الصين على استيراد منتجات أساسية مثل فول الصويا وخام الحديد، إلى جانب طلب مرتفع على العلامات التجارية العالمية الفاخرة والتعليم العالي في الغرب.
مع ذلك، فإن الاتجاهات الحالية تشير بوضوح إلى تراجع الحاجة إلى أي من هذه الواردات، إذ تواصل بكين الاستثمار بقوة في تطوير قطاعاتها الصناعية عالية التقنية، بما في ذلك الرقائق الإلكترونية والبرمجيات والطائرات التجارية والآلات المتقدمة، تمهيداً لإنتاجها محلياً وتصديرها للعالم.
هذا التحول المدفوع بالرغبة في تحقيق قدر أكبر من الأمان الاقتصادي، جاء أيضاً كرد فعل على استخدام الولايات المتحدة ضوابط التصدير كأداة ضغط، حسب ما ذكرته صحيفة “فاينانشيال تايمز” البريطانية.
ورغم تفهم المخاوف الصينية، فإن النتيجة العملية هي إغلاق أبواب التجارة أمام الاقتصادات التي تعتمد على التصدير، مثل أوروبا واليابان وكوريا الجنوبية والولايات المتحدة.
ومع تقلص واردات الصين من السلع الأجنبية، تصبح قدرة هذه الدول على الحفاظ على نموها الاقتصادي مهددة، خاصة أن استمرار الاعتماد على الواردات الصينية دون تحقيق صادرات مقابلة يخلق فجوة تمويلية لا يمكن استمرارها.
تعكس توقعات المؤسسات المالية هذا الاتجاه. فحين رفعت “جيه بي مورجان” تقديراتها لنمو الاقتصاد الصيني بحلول عام 2035، لم تُترجم هذه التوقعات إلى فوائد على بقية العالم كما يحدث عادة مع أي اقتصاد كبير، إذ إن النمو الإضافي في حالة الصين يعتمد بشكل رئيسي على التصدير، ما يعني سحب حصص من أسواق دول أخرى.
وتشير التقديرات إلى أن ألمانيا ستكون الأكثر تضرراً، مع تباطؤ متوقع في نموها بنحو 0.3 نقطة مئوية خلال السنوات المقبلة.
رغم أن معالجة هذا الخلل تتطلب إصلاحات واسعة داخل الصين، تشمل تحفيز الاستهلاك المحلي، وتعزيز القوة الشرائية، ورفع قيمة العملة، وتقليص الدعم الهائل للصناعة، فإن التوجهات الرسمية لا تُظهر استعداداً حقيقياً لتبني هذه السياسات.
ففي خارطة أولويات الخطة الخمسية الجديدة، يأتي تعزيز الاستهلاك في المرتبة الثالثة، بينما تتصدر الصناعة والتكنولوجيا قائمة الأولويات.
بالنسبة لأوروبا، يضع هذا الواقع خيارات محدودة أمام صُناع السياسات.
فالحل الأكثر صعوبة يتمثل في تعزيز القدرة التنافسية عبر إصلاحات اقتصادية عميقة، وتخفيف الأعباء التنظيمية، وتقليل حجم الرفاه الاجتماعي، بما يسمح بمواجهة المنافسة الصينية.
لكن هذا المسار رغم ضرورته قد لا يكون كافياً، خصوصاً في ظل تدفّق المنتجات الصينية منخفضة التكلفة إلى الأسواق العالمية وغياب طلب مقابل على المنتجات الأوروبية داخل السوق الصينية.
ومع انحسار البدائل، يبرز خيار غير مرغوب لكنه يكاد يكون حتمياً، ألا وهو اللجوء إلى الحمائية.
رغم إدراك أوروبا للمخاطر الكبيرة التي قد تترتب على فرض قيود تجارية واسعة، إلا أن حماية الصناعات المحلية قد تصبح الخيار الوحيد للحفاظ على ما تبقى من القاعدة الصناعية في مواجهة صعود النموذج الصيني المعتمد على التصدير ورفض الاستيراد.
إن استمرار هذا الاتجاه قد يؤدي إلى مزيد من التصدعات في النظام التجاري العالمي، خاصة أن الصين قد ترد بقوة على أي إجراءات حمائية لا تصدر عن الولايات المتحدة، التي تعتبرها ندها الوحيد.
مع ذلك، ومع غياب الخيارات الجيدة، يبدو أن الاقتصادات الكبرى مضطرة إلى إعادة تقييم علاقاتها التجارية مع الصين، والعمل على بناء نماذج أكثر اعتماداً على السوق الداخلية وتقليل التعرض للاختلالات التجارية المتصاعدة.
في ظل هذا المشهد، تبدو التجارة مع الصين أقرب إلى معادلة غير متوازنة، إذ تواصل بكين البيع للعالم دون أن تُظهر استعداداً مماثلاً للشراء، ما يجعل مستقبل التجارة العالمية أكثر هشاشة وتقلباً.








