يتجه المستثمرون في الأسواق المالية العالمية، نحو أدوات التحوط بقوة ضد المخاطر، في ظل تزايد المخاوف من أن تتحول الطفرة الحالية في الذكاء الاصطناعي من فرصة نمو استثنائية إلى فقاعة ديون قد تفرض ضغوطاً كبيرة على شركات التكنولوجيا الكبرى.
ويأتي هذا التحول في وقت تتوسع فيه هذه الشركات بشكل غير مسبوق في الاقتراض لتمويل استثمارات ضخمة في البنية التحتية المرتبطة بالذكاء الاصطناعي، لاسيما مراكز البيانات والقدرات الحاسوبية المتقدمة، وهي استثمارات تتطلب إنفاقاً رأسمالياً هائلاً وقد يستغرق تحقيق عوائدها سنوات طويلة.
قلق متزايد من موجة الاقتراض
وشهدت الأسواق ارتفاعاً كبيراً في التداول على الأدوات المالية التي توفر حماية ضد مخاطر تعثر الشركات، وعلى رأسها عقود مبادلة مخاطر الائتمان، وهي أدوات تتيح للمستثمرين الحصول على تعويض في حال عجز الشركة المُصدِرة للسندات عن الوفاء بالتزاماتها.
ووفقاً لبيانات صادرة عن غرفة المقاصة الأمريكية DTCC، ارتفعت أحجام التداول في هذه العقود المرتبطة بعدد محدود من شركات التكنولوجيا الأمريكية بنحو 90% منذ أوائل شهر سبتمبر الماضي، في إشارة واضحة إلى تنامي القلق الائتماني لدى المستثمرين، وتزايد الرغبة في التحوط من سيناريوهات سلبية محتملة.
ويعكس هذا التوسع في استخدام عقود التحوط تحولاً مهماً في نظرة المستثمرين تجاه المخاطر المرتبطة بقطاع التكنولوجيا، الذي كان يُنظر إليه خلال السنوات الماضية باعتباره من أكثر القطاعات أماناً من الناحية الائتمانية، بفضل قوته المالية، وارتفاع هوامش أرباحه، وتراكم احتياطيات نقدية ضخمة لدى كبرى شركاته.
لكن هذه النظرة بدأت تتغير تدريجياً مع تسارع وتيرة الإنفاق على مشروعات الذكاء الاصطناعي، واعتماد الشركات بشكل متزايد على أسواق الدين لتمويل هذا الإنفاق، بدلاً من الاعتماد الكامل على السيولة المتاحة لديها.
تقلبات حادة في ديون وأسهم شركات التكنولوجيا
وتزامن تصاعد الطلب على أدوات التحوط مع تجدد موجة بيع في أسهم التكنولوجيا في “وول ستريت”، أعقبت إعلان نتائج أعمال جاءت دون التوقعات المرتفعة للمستثمرين من بعض الشركات البارزة في القطاع، من بينها شركة البرمجيات “أوراكل”، وصانعة الرقائق “برودكوم”.
وقد أعادت هذه النتائج إشعال التساؤلات حول مدى قدرة شركات التكنولوجيا على تحويل الاستثمارات الضخمة في الذكاء الاصطناعي إلى نمو فعلي ومستدام في الإيرادات والأرباح، في ظل المنافسة الشرسة بين مزودي حلول الذكاء الاصطناعي، وعدم وضوح النموذج الربحي النهائي للعديد من هذه التطبيقات.
وخلال الأشهر الأخيرة، شهدت أسهم وسندات الشركات المرتبطة بطفرة الذكاء الاصطناعي تقلبات حادة، إذ تفاعل المستثمرون بشكل حساس مع كل إعلان لنتائج الأعمال، أو تحديث بشأن خطط التوسع الرأسمالي، أو مؤشرات على الطلب المستقبلي على الرقائق الإلكترونية ومراكز البيانات
كما احتدم الجدل في الأسواق حول التأثير المحتمل لتنافس منتجات الذكاء الاصطناعي التي تطورها شركات كبرى مثل ” Open AI” و”جوجل” و”أنثروبيك”، وما إذا كان هذا التنافس سيؤدي إلى ضغط على هوامش الربح، أو إلى فائض في الاستثمارات يفوق الطلب الفعلي على المدى المتوسط؟.
وقد كان الارتفاع في تداول عقود مبادلة مخاطر الائتمان أكثر وضوحاً بالنسبة لبعض الشركات بعينها، وعلى رأسها شركة أوراكل، وشركة الحوسبة السحابية CoreWeave، حيث تسعى كلتاهما إلى جمع مليارات الدولارات من الديون لتمويل تأمين قدرات إضافية في مراكز البيانات اللازمة لتشغيل تطبيقات الذكاء الاصطناعي.
كما شهدت الأسواق ظهور تداول نشط على عقود مبادلة مخاطر الائتمان الخاصة بشركة ميتا، وذلك عقب قيامها بطرح سندات بقيمة 30 مليار دولار في أكتوبر لتمويل مشروعات في مجال الذكاء الاصطناعي، ما أدى إلى نشوء سوق جديدة نسبياً لهذه الأدوات المرتبطة بسهم الشركة.
عقود CDS بين التحوط والمضاربة
وتُستخدم عقود مبادلة مخاطر الائتمان تقليدياً كوسيلة تأمين ضد مخاطر التعثر، إذ يدفع المستثمر قسطاً دورياً مقابل الحصول على حماية في حال عدم قدرة الشركة المُصدِرة للدين على السداد، غير أن هذه العقود تُستخدم أيضاً على نطاق واسع للتحوط من تقلبات أسعار السندات، أو حتى للمضاربة على تحركاتها، ما يجعلها أداة مرنة في إدارة المخاطر أو في اتخاذ رهانات استثمارية على اتجاهات السوق.
وفي هذا الإطار، أشار ناثانيال روزنباوم، استراتيجي الائتمان من فئة الدرجة الاستثمارية في بنك “جيه بي مورجان”، إلى أن أحجام التداول في عقود مبادلة مخاطر الائتمان الخاصة بالشركات الفردية ارتفعت بشكل كبير خلال هذا الربع، ولا سيما بالنسبة لشركات التكنولوجيا العملاقة التي تقوم ببناء مراكز بيانات ضخمة في أنحاء الولايات المتحدة.
وأضاف أن هذا النشاط يعكس إدراكاً متزايداً لدى المستثمرين بأن التوسع السريع في الإنفاق الرأسمالي، حتى من قبل الشركات ذات التصنيفات الائتمانية المرتفعة، يحمل في طياته مخاطر لا يمكن تجاهلها.
وأكد مسئول تنفيذي رفيع في إحدى شركات الاستثمار الائتماني الكبرى في الولايات المتحدة هذا التوجه، مشيراً إلى أن التداول في عقود مبادلة مخاطر الائتمان الخاصة بالأسماء الفردية شهد زيادة ملحوظة، مع تزايد لجوء المستثمرين إلى استخدام سلال من هذه العقود للتحوط ضد مخاطر مجموعة من شركات التكنولوجيا الكبرى، أو التركيز بشكل خاص على شركات مثل أوراكل وميتا.
ولفت إلى أن السؤال الرئيسي الذي يطرحه المستثمرون حالياً يتمحور حول كيفية حماية محافظهم الاستثمارية في ظل حالة عدم اليقين، مضيفًا أن الإجابة الأكثر شيوعاً تتمثل في بناء مراكز تحوط باستخدام سلال من عقود مبادلة مخاطر الائتمان الخاصة بقطاع التكنولوجيا.
تحوّل في نظرة المستثمرين للمخاطر الائتمانية
في مطلع العام الحالي، كان الطلب على عقود مبادلة مخاطر الائتمان الخاصة بالشركات الأمريكية ذات التصنيف الائتماني المرتفع ضعيفاً للغاية أو شبه معدوم، إذ كان الاعتقاد السائد أن المخاطر الائتمانية في قطاع التكنولوجيا محدودة، نظراً لاعتماد الشركات على احتياطياتها النقدية الكبيرة وأرباحها القوية في تمويل الإنفاق على الذكاء الاصطناعي.
وبدأ هذا التصور يتغير مع انتقال هذه الشركات إلى أسواق الدين لتغطية التكاليف المتزايدة لمشروعاتها الطموحة، ما دفع المستثمرين إلى إعادة تقييم مستويات المخاطر المرتبطة بها.
وقد جمعت شركات ميتا وأمازون وألفابت وأوراكل مجتمعة نحو 88 مليار دولار خلال خريف هذا العام، لتمويل مشروعات الذكاء الاصطناعي، في حين يتوقع بنك “جيه بي مورجان” أن تصل إصدارات الديون من قبل الشركات ذات التصنيف الاستثماري إلى نحو 1.5 تريليون دولار بحلول عام 2030، وهو رقم يعكس الحجم الهائل للاستثمارات المتوقعة في هذا المجال.
ومع هذا التوسع في الاقتراض، بدأ المستثمرون ينظرون إلى المخاطر الائتمانية بشكل أكثر تميزاً، إذ لم يعد يُنظر إلى جميع شركات التكنولوجيا على أنها متساوية من حيث المخاطر، بل باتت الفروقات في نماذج الأعمال، وهيكل التكاليف، وتركيز العملاء، ومستويات الدين تلعب دوراً محورياً في تقييم الجدارة الائتمانية لكل شركة على حدة.
وقال أحد المستثمرين في شركة متخصصة في إدارة الأصول، إن السوق انتقلت من مرحلة الاعتقاد بعدم وجود مخاطر ائتمانية تُذكر، إلى مرحلة الإقرار بوجود مخاطر متفاوتة حسب اسم الشركة، وهو ما يستدعي استخدام أدوات تحوط مناسبة. وأضاف أن هذا التحول لا يعني بالضرورة توقع تعثر واسع النطاق، لكنه يعكس قدراً أكبر من الحذر في إدارة المحافظ الاستثمارية.
“أوراكل” في بؤرة الاهتمام الائتماني
تُعد شركة أوراكل مثالاً بارزاً على هذا التحول في النظرة الائتمانية، إذ تتمتع بتصنيف ائتماني أدنى نسبياً مقارنة ببعض نظيراتها من شركات الدرجة الاستثمارية الكبرى.
وقد تضاعفت أحجام التداول الأسبوعية لعقود مبادلة مخاطر الائتمان الخاصة بها أكثر من ثلاث مرات خلال العام الحالي، كما ارتفعت تكلفة شراء هذه العقود إلى أعلى مستوى لها منذ عام 2009، في إشارة إلى تزايد القلق بشأن أوضاعها المالية.
وتعرضت أسهم وسندات “أوراكل” لموجة بيع حادة عقب إعلانها عن نتائج أعمال جاءت دون تقديرات المحللين لإيرادات الربع الثالث، قبل أن تتفاقم الضغوط على سعر السهم بعد إعلان الشركة عن تأجيل إنشاء أحد مراكز البيانات على الأقل، ما أثار تساؤلات حول وتيرة تنفيذ خططها التوسعية في مجال الذكاء الاصطناعي.
وفي هذا السياق، قال بندكت كايم، مدير محفظة في شركة “أتلاتنا ويلث” لإدارة الأصول، إن الشركة لا تتوقع تعثر أوراكل في المدى القريب، لكنها ترى أن تسعير عقود مبادلة مخاطر الائتمان الخاصة بها كان منخفضاً بشكل غير مبرر قياساً بمستويات المخاطر الفعلية.
وأوضح ماتيو سكيما، الشريك في الشركة نفسها، أن “أتلانتا” دخلت في مراكز تراهن ضد “أوراكل” عبر عقود مبادلة مخاطر الائتمان في أوائل أكتوبر، بعد تقييم ارتفاع مستويات ديون الشركة واعتمادها الكبير على عميل واحد رئيسي هو شركة Open AI المطورة لتطبيق Chat GPT، معتبرًا أن هذه العوامل جعلت الصفقة بمثابة فرصة واضحة في ظل الفجوة بين التسعير والمخاطر.
ويرى محللون، أن الاهتمام المتزايد بعقود مبادلة مخاطر الائتمان الخاصة بالشركات الفردية يعكس مرحلة جديدة في دورة الائتمان لقطاع التكنولوجيا، حيث لم تعد المخاطر تُقيّم على مستوى القطاع ككل، بل على مستوى كل شركة على حدة.
وفي هذا السياق، قال بريج خورانا، مدير محفظة في شركة ويلينجتون لإدارة الاستثمارات، إن عقود مبادلة مخاطر الائتمان الخاصة بالأسماء الفردية تمر حالياً بمرحلة ازدهار واضحة، مدفوعة بزيادة انكشاف البنوك ومؤسسات الائتمان الخاص على شركات بعينها.
وأضاف أن هذا الانكشاف المتزايد يدفع المؤسسات المالية إلى البحث عن وسائل لتقليص المخاطر، لا سيما في ظل بيئة تتسم بعدم اليقين بشأن المسار المستقبلي للعوائد من استثمارات الذكاء الاصطناعي.
وأشار إلى أن المستثمرين باتوا يبحثون بشكل متزايد عن “تأمين” لمحافظهم الاستثمارية، سواء من خلال التحوط المباشر ضد مخاطر التعثر، أو من خلال أدوات تسمح لهم بإدارة التقلبات المحتملة في أسعار السندات والأسهم.
وفي المحصلة، يعكس هذا الاتجاه المتنامي نحو التحوط من مخاطر ديون الذكاء الاصطناعي إدراكاً متزايداً لدى المستثمرين بأن الطفرة الحالية، رغم ما تحمله من فرص هائلة للنمو والتحول التكنولوجي، لا تخلو من مخاطر مالية قد تتبلور مع مرور الوقت.
وبينما لا يتوقع كثيرون حدوث موجة تعثر وشيكة في صفوف شركات التكنولوجيا الكبرى، فإن التحوط أصبح أداة أساسية في إدارة المخاطر، في ظل اتساع نطاق الاقتراض، وارتفاع التكاليف، وعدم وضوح العوائد النهائية لاستثمارات الذكاء الاصطناعي على المدى الطويل.







