تغير هيكل الدائنين يحد من فعالية الحلول التقليدية
فتح منتدى البركة الإقليمي الخامس، ملفا بالغ الحساسية: كيف يمكن تمويل التنمية بصورة مستدامة، دون الوقوع في فخاخ المديونية؟ وهل تمثل أدوات التمويل الإسلامي جزءاً من الحل في عالم يبدو أنه استنفد كثيراً من الأدوات التقليدية؟
السؤالان، كانا محور جلسة ساخنة عقدت الأسبوع الماضي، وأدارها الدكتور محمود محيي الدين، المبعوث الخاص للأمم المتحدة لتمويل التنمية، وجمعت بين منظور السياسة النقدية كما عرضه على العلاق محافظ البنك المركزي العراقي، ومنظور الرقابة والتنظيم المالي كما قدمه محمد فريد رئيس الهيئة العامة للرقابة المالية، في نقاش اتسم بالعمق الفني والبعد الأخلاقي في آن واحد.
محيي الدين: العالم بحاجة لمعايير أكثر إنسانية
واستهل محمود محيي الدين، الجلسة بالإشارة إلى أن العالم يمر بمرحلة دقيقة من تاريخ التمويل والتنمية، موضحاً أن أزمة الديون لم تعد مجرد أرقام في تقارير المؤسسات الدولية، بل تحولت إلى عبء اقتصادي واجتماعي يهدد فرص النمو والاستقرار في عدد كبير من الدول.
أضاف أن المؤشرات التقليدية لقياس الاستدامة المالية لم تعد كافية، لافتاً إلى أن العالم بدأ ينظر إلى مؤشرات أكثر واقعية، مثل مقارنة ما تنفقه الدول على خدمة الدين بما تنفقه على التعليم والصحة والحماية الاجتماعية.
العلاق: التمويل الإسلامي يحظى باهتمام أكبر في الدول المتقدمة
وقال علي العلاق، محافظ البنك المركزي العراقي، إن العالم وصل إلى مرحلة أصبحت فيها الحلول التقليدية لأزمات الديون غير قادرة على الاستجابة للتحديات الراهنة، موضحا أن مستويات الدين العام العالمية، خاصة في الدول النامية والأقل دخلاً، باتت تشكل خطراً حقيقياً على الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي، مشيراً إلى أن بعض الدول، لاسيما في أفريقيا، أصبحت خدمة الدين لديها تفوق ما تنفقه على التعليم أو الصحة.
أضاف محافظ البنك المركزي العراقي، أن أحد المؤشرات الخطيرة في هذا السياق هو الفارق بين سعر الفائدة الحقيقي ومعدل النمو الاقتصادي (r – g)، إذ تشير البيانات إلى أن النمو في كثير من الدول أقل بكثير من تكلفة التمويل، وهو ما يعني ببساطة أن الدين يتراكم بوتيرة أسرع من قدرة الاقتصادات على السداد.
وأشار العلاق، إلى مفارقة لافتة، تتمثل في أن الاهتمام بأدوات التمويل الإسلامي يبدو أحياناً أكثر وضوحاً في الدول المتقدمة مقارنة بعدد من الدول الإسلامية، موضحا أن كثيرا من البلدان العربية والإسلامية لديها أموال ضخمة معطلة، نتيجة عزوف شريحة من المواطنين عن التعامل مع المصارف التقليدية لأسباب شرعية، في حين لم تنجح المؤسسات المالية بعد في توفير بدائل إسلامية قادرة على تعبئة هذه المدخرات وتوجيهها نحو الاستثمار.
أضاف أن التمويل الإسلامي لا يجب النظر إليه فقط من زاوية دينية، بل من زاوية أخلاقية وإنسانية أوسع، مؤكداً أن القيم التي يقوم عليها هذا النوع من التمويل تتقاطع مع المبادئ الأخلاقية في الديانات الأخرى، وعلى رأسها المسيحية، التي تركز على العدالة الاجتماعية وعدم الجشع ومساندة الفئات الأضعف.
وشدد محافظ البنك المركزي العراقي على البعد القيمي في إدارة المال، موضحاً أن الإسلام ينظر إلى المال باعتباره وسيلة وأمانة، وليس غاية في حد ذاته.
وأشار إلى مفهوم الاستخلاف والمسئولية الجماعية في التصرف بالموارد، مستشهداً بنصوص قرآنية تؤكد أن المال هو “مال الجماعة”، وأن سوء استخدامه يفرض على المجتمع والدولة التدخل لحمايته.
واعتبر أن هذا الإطار القيمي يمكن أن يشكل أرضية مشتركة بين مختلف الثقافات والديانات، ويمثل أساساً لإعادة التفكير في نماذج التمويل السائدة عالمياً.
وعقب محيي الدين، على ما طرحه محافظ البنك المركزي العراقي، مؤكداً أن النقاش العالمي حول الديون يشهد تحولاً مهماً.
وأوضح أن التركيز لم يعد منصباً فقط على نسب الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي، بل على كيفية استخدام الموارد، وما إذا كانت الديون تُترجم إلى استثمارات حقيقية في البشر والبنية الأساسية، أم تُستهلك في نفقات جارية لا تحقق عائداً تنموياً؟
وأشار إلى مبادرات دولية حديثة، من بينها تقارير صادرة عن صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، تدعو لإعادة النظر في آليات إدارة الديون، وتطوير نظم إنذار مبكر تمنع الدول من الوقوع في فخاخ الاستدانة.
انتقل النقاش بعد ذلك إلى سؤال جوهري حول دور البنوك المركزية في تحقيق التوازن بين مكافحة التضخم ودعم النمو.
وفي هذا السياق، أوضح محافظ البنك المركزي العراقي أن البنوك المركزية تواجه ما يشبه “المثلث شبه المستحيل”، إذ يصعب تحقيق الاستقرار السعري، والاستقرار المالي، ودعم النمو في الوقت ذاته دون حدوث مفاضلات.
وأشار إلى أن التحدي في العراق أكثر تعقيداً، نظراً لاعتماد المالية العامة بشكل كبير على الإيرادات النفطية، التي تمثل نحو 90% من موارد الموازنة، وهو ما يخلق حالة من “هيمنة المالية العامة على السياسة النقدية”.
قال العلاق إن اعتماد العراق على النفط كمصدر رئيس للعملة الأجنبية يجعل السياسة النقدية عرضة لتقلبات الأسواق العالمية، حيث تؤثر أي هزة في أسعار النفط مباشرة على الاحتياطيات الأجنبية وسعر الصرف.
وأوضح أن ضعف التنويع الاقتصادي واعتماد البلاد الكبير على الاستيراد يزيد من الضغط على البنك المركزي لتلبية الطلب على الدولار، حفاظاً على استقرار سعر الصرف والقوة الشرائية للمواطنين.
أكد العلاق، أن البنك المركزي العراقي تبنى سياسة واضحة للدفاع عن سعر الصرف، مستفيداً من احتياطيات أجنبية قوية تجاوزت مستويات الكفاية الدولية، ما أتاح الحفاظ على استقرار نقدي ملحوظ خلال السنوات الأخيرة.
وفيما يتعلق بعلاقة البنك المركزي بالحكومة، شدد محافظ البنك المركزي العراقي على رفض اللجوء السهل إلى التمويل التضخمي.
وأوضح أن البنك المركزي يتعامل مع تمويل العجز باعتباره “الملاذ الأخير” وليس الخيار الأول، محذراً من مخاطر الاعتماد المفرط على الإصدار النقدي، لما له من آثار سلبية على الاستقرار النقدي ويؤدي إلى تأجيل الإصلاحات الهيكلية الضرورية.
أكد العلاق، أن هناك تنسيقاً مستمراً مع الحكومة العراقية لزيادة الإيرادات غير النفطية وضبط النفقات، بما يقلل الضغوط على السياسة النقدية ويعزز الاستدامة المالية.
فريد: ضعف الادخار المحلي يدفع الاقتصادات الناشئة نحو الاستدانة
وفي مداخلة تحليلية، قدم محمد فريد، رئيس الهيئة العامة للرقابة المالية، رؤية مختلفة نسبياً، معتبراً أن أزمة الديون هي في جوهرها “عرض” لمشكلة أعمق، تتمثل في ضعف معدلات الادخار في الاقتصادات النامية.
وأوضح أن غياب قنوات فعالة لحشد المدخرات المحلية يدفع الدول للاعتماد على الاقتراض الخارجي لتمويل التنمية، وهو ما يفاقم أزمات ميزان المدفوعات.
وأشار إلى أهمية التمييز بين المشروعات القابلة للتمويل تجارياً (Bankable) والمشروعات التي تقع بطبيعتها على عاتق الدولة، مؤكداً أن أحد التحديات الرئيسية هو تحويل المشروعات القابلة للاستثمار إلى منتجات مالية تتيح مشاركة المواطنين والمدخرين فيها.
وعقب محيي الدين على هذه النقطة، مشيراً إلى تطور مهم في الفكر التنموي، يتمثل في الانتقال من مفهوم “المشروعات القابلة للتمويل المصرفي” إلى “المشروعات القابلة للاستثمار”.
وأوضح أن هذا التحول يفتح الباب أمام مصادر تمويل أوسع، تشمل أسواق المال، وصناديق الاستثمار، والتمويل التشاركي، إلى جانب التمويل المصرفي التقليدي.
وتطرق فريد، إلى فكرة مبادلة الديون بالأصول، باعتبارها أحد الحلول المطروحة لأزمات المديونية، لكنه حذر من صعوبات تطبيقها في ظل تغير هيكل الدائنين.
وأوضح أن الديون لم تعد تتركز في أيدي جهات رسمية مثل “نادي باريس”، بل باتت موزعة بين مستثمرين ومؤسسات خاصة، ما يجعل التفاوض الجماعي أكثر تعقيداً.
أضاف فريد، أن استخدام أدوات التمويل الإسلامي، مثل الصكوك، قد يوفر إطاراً مناسباً لبعض هذه المبادلات، لكنه يتطلب بنية تنظيمية وتشريعية متطورة.
واستعرض رئيس هيئة الرقابة المالية تجربة مصر في تطوير الإطار التنظيمي لأسواق المال والتمويل غير المصرفي، موضحا أن دور الرقيب لا يقتصر على الرقابة، بل يمتد إلى التمكين وبناء الثقة، من خلال وضع قواعد واضحة تتيح الابتكار وتحمي في الوقت ذاته حقوق المستثمرين والمتعاملين.
وأشار إلى أن إصدار تشريعات وتنظيمات خاصة بسندات الاستدامة والصكوك الإسلامية أسهم في جذب استثمارات جديدة، سواء بالعملة المحلية أو الأجنبية، وفتح قنوات تمويل لمشروعات لم تكن قادرة على الحصول على تمويل تقليدي.
وكشف فريد، أن مصر شهدت منذ 2020 نمواً ملحوظاً في إصدارات سندات الاستدامة والصكوك، حيث تجاوزت الإصدارات خلال عام 2025 وحده ما تم إصداره في السنوات السابقة مجتمعة.
وأوضح أن هذا النمو لم يكن ليحدث دون وضوح التعريفات والمعايير التنظيمية، التي منحت المستثمرين والمصدرين الثقة في هذه الأدوات.
أكد رئيس الرقابة المالية، أن الرقمنة تمثل حجر الزاوية في توسيع قاعدة الادخار والاستثمار، مشيرا إلى أن التحول الرقمي في خدمات التأمين والتمويل غير المصرفي يمكن أن يرفع معدلات الادخار التعاقدي، التي لاتزال منخفضة، مقارنة بالأسواق الناشئة والمتقدمة.
وأكد أن مستقبل التمويل الإسلامي، شأنه شأن التمويل عموماً، مرهون بالقدرة على الوصول إلى أكبر شريحة ممكنة من المواطنين، باستخدام أدوات رقمية آمنة ومنظمة.
وفي ختام الجلسة، أجمع المشاركون على أن التمويل الإسلامي لا يمثل بديلاً كاملاً عن النظام المالي التقليدي، لكنه يشكل جزءاً مهماً من الحل، خاصة في الدول التي تعاني من فجوات تمويلية وضعف في الادخار المحلي.
وأكدوا أن نجاح هذا النموذج يتطلب تكاملاً بين السياسات النقدية والمالية، وتطوير الأطر التنظيمية، وتعزيز الثقة، إلى جانب استلهام البعد الأخلاقي في إدارة المال والتنمية.
وبينما يواجه العالم تحديات اقتصادية غير مسبوقة، بدا واضحاً أن البحث عن حلول جديدة – أو إعادة اكتشاف حلول قديمة بروح معاصرة – لم يعد خياراً، بل ضرورة حتمية.







