كشف تقرير حديث لهيئة الرقابة المالية ، عن أداء صناديق التأمين الخاصة في 2024 ، نموًا ماليًا وتراجعا في قاعدة الأعضاء، إذ ارتفع إجمالي الأصول بنسبة 20.2% ليصل إلى 195.8 مليار جنيه، وتبعه ارتفاع المال الاحتياطي بنسبة 22.0%.
وكان المحرك الأبرز لذلك النمو ، هو “الأداء الاستثماري”، إذ قفز إجمالي الاستثمارات بنسبة 25.7%، بينما سجل صافي دخل الاستثمارات زيادة بلغت 87.0%، ليصل إلى 31.4 مليار جنيه.
وشهد عام 2024 تحولًا في توزيع استثمارات صناديق التأمين الخاصة، إذ سعت لتقليل الاعتماد على الأوراق الحكومية المضمونة لصالح أدوات ذات عائد أعلى، بينما انخفضت حصة الأوراق المضمونة من الحكومة (شهادات وأذون وسندات) من 75.6% في 2023 إلى 47.1% في 2024.
وفي المقابل، ارتفع الاستثمار في الودائع بالبنوك بنسبة 219.4%، لتصبح القناة الاستثمارية الأكبر بحصة بلغت 38.5%، كما زاد الاهتمام بالسندات غير الحكومية والاستثمارات الأخرى، إذ حقق عائد السندات غير الحكومية قفزة تجاوزت 2499%.
وتراجع عدد أعضاء صناديق التأمين الخاصة خلال 2024 بنحو 8.3%، ليستقر عند 4.3 مليون عضو، ويُعزى ذلك التراجع إلى ارتفاع معدلات إنهاء العضوية (التقاعد، الوفاة، الاستقالة) التي بلغت 524 ألف حالة خلال العام.
وتظل صناديق المزايا التأمينية المحددة هي النوع السائد في منظومة صناديق التأمين الخاصة، بواقع 514 صندوقًا، وتتركز غالبية الصناديق في محافظة القاهرة، التي تضم أكثر من نصف الصناديق بنسبة 52.8% ونحو 78.7% من إجمالي الأعضاء.
ورغم أن تلك المؤشرات تعكس نموًا إلا أن الخبراء يجمعون على أن الصورة ليست أحادية البُعد، فالنمو المحقق، بحسبهم، يعكس إلى حد كبير كفاءة في إدارة المحافظ والاستفادة من بيئة أسعار الفائدة المرتفعة، أكثر ما يعكس توسعًا حقيقيًا في القاعدة التأمينية أو تحسنًا هيكليًا مستدامًا.
وحذر الخبراء من أن التحول نحو أدوات أعلى عائدًا يحمل في طياته مستويات أكبر من المخاطر الائتمانية والمالية، بالتزامن مع تراجع عدد الأعضاء واستمرار هيمنة نماذج المزايا المحددة، وهو ما يضع صناديق التأمين الخاصة أمام اختبار صعب.
والسؤال الذي يبحثه التحقيق الحالي، هو: “كيف تحافظ صناديق التأمين الخاصة على أرباحها دون الإخلال باستدامتها طويلة الأجل ودورها كأداة حماية وادخار اجتماعي؟”
أوضح أحمد إبراهيم، خبير التأمين الاستشاري، أن هيمنة صناديق المزايا التأمينية المحددة على المشهد تضع عبئًا طويل الأجل على إدارات الصناديق.
وقال لـ”البورصة” إن ذلك النوع من الصناديق ينقل المخاطر بالكامل تقريبًا إلى الصندوق نفسه، ما يجعل أي خطأ في التقديرات الإكتوارية أو سوء إدارة للأصول والخصوم خطرًا حقيقيًا على الاستدامة.
أضاف إبراهيم، أن التفاوت الكبير بين الصناديق من حيث حجم المال الاحتياطي وعدد الأعضاء يكشف عن “قطاع مزدوج السرعة”، حيث تسيطر مجموعة محدودة من الصناديق الكبرى على النصيب الأكبر من الاحتياطيات، بينما تعمل عشرات الصناديق الصغيرة بهوامش أمان محدودة.
وذكر أن البيانات أظهرت تراجع عدد أعضاء صناديق التأمين الخاصة إلى نحو 4.3 مليون عضو، نتيجة ارتفاع حالات إنهاء العضوية، سواء بالتقاعد أو الاستقالة أو الوفاة.
ويرى أن التراجع يمثل إشارة إنذار مبكرة، تعكس ضغوطًا اقتصادية على الأفراد وتغيرًا في أولويات الادخار، ما قد يؤثر مستقبلًا على قدرة الصناديق على الحفاظ على تدفقات نقدية مستقرة.
وتابع أن استمرار هيمنة صناديق “المزايا المحددة” يعكس تمسكًا بنموذج تقليدي يحمّل الصندوق التزامًا طويل الأجل تجاه الأعضاء، وهو ما يضاعف أهمية كفاءة إدارة الأصول والخصوم في بيئة متقلبة، كما أن التركز الجغرافي الشديد في القاهرة، سواء لعدد الصناديق أو الأعضاء، يكشف عن اختلال في الانتشار والعدالة التأمينية، ويحد من الدور التنموي المحتمل للصناديق في باقي المحافظات.
وقال إيهاب خضر، وسيط التأمين وخبير الإدارة الإستراتيجية، إن نمو إجمالي الأصول والمال الاحتياطي لصناديق التأمين الخاصة في 2024 يعكس تحسن القيمة السوقية لمحافظ الصناديق، لكنه في جوهره نمو غير عضوي، إذ لم يكن مدفوعًا بتوسع قاعدة المشتركين أو بزيادة التدفقات المنتظمة من الاشتراكات، بل بالأداء الاستثماري الاستثنائي.
وأضاف لـ”البورصة” أن القفزة في صافي دخل الاستثمارات (87%) تشير إلى استفادة مباشرة من بيئة أسعار الفائدة المرتفعة، وإعادة تسعير الأصول المالية، وهو ما يعزز المراكز المالية على المدى القصير، لكنه يثير تساؤلات حول استدامة هذا الزخم في حال تغيرت الظروف النقدية.
وذكر أن تقليص الاعتماد على الأوراق الحكومية المضمونة، رغم كونها الأقل مخاطرة، يعكس بحثًا واضحًا عن عوائد حقيقية موجبة في ظل التضخم، لكنه في المقابل يعني تحمّل مستويات أعلى من مخاطر الائتمان والسيولة.
وأوضح أن تراجع عدد أعضاء صناديق التأمين الخاصة بنسبة ملموسة يسلّط الضوء على خلل هيكلي في المنظومة، إذ إن زيادة حالات إنهاء العضوية تعكس اتجاهًا ديموغرافيًا واقتصاديًا معًا، حيث الشيخوخة النسبية لقاعدة المشتركين والضغوط المعيشية التي تدفع بعض العاملين إلى الخروج من نظم الادخار طويلة الأجل.
وبيّن أن ذلك التراجع يعني انكماش قاعدة التمويل المستقبلية، ما قد يضغط على قدرة الصناديق على توليد تدفقات نقدية مستقرة على المدى المتوسط، حتى وإن بدت أوضاعها المالية قوية حاليًا.
لم تتحول إلى أداة اقتصادية
من جانبه، يرى الدكتور خالد الشافعي، الخبير الاقتصادي ورئيس مركز العاصمة للدراسات والأبحاث الاقتصادية، أن أرقام 2024 تعكس تحسنًا ماليًا واضحًا، بينما لا يمكن فصله عن طبيعة الاقتصاد المصري نفسه.
وأضاف الشافعي لـ”البورصة” أن غالبية صناديق التأمين الخاصة مرتبطة بالجهات الحكومية والسيادية وقطاع الأعمال العام، ما يجعل نموها انعكاسًا مباشرًا لاستقرار التوظيف الرسمي وأوضاع المالية العامة، وليس نتيجة توسع حقيقي في الشمول التأميني.
وأوضح أن التركز الجغرافي للصناديق في القاهرة والجيزة يعكس خللًا هيكليًا في توزيع أدوات الحماية الاجتماعية، مشيرًا إلى أن غياب الانتشار الواسع في المحافظات يعني أن الصناديق لم تتحول بعد إلى أداة اقتصادية داعمة للادخار طويل الأجل على مستوى المجتمع ككل.
النمو يعتمد على العائد الاستثماري
أما الدكتور حازم حسانين، عضو الجمعية المصرية للاقتصاد السياسي والتشريع، فيلفت إلى أن القفزة الكبيرة في صافي دخل الاستثمارات تعكس كفاءة مالية واضحة في إدارة المحافظ خلال عام اتسم بارتفاع أسعار الفائدة.
أضاف حسانين لـ”البورصة”، أن التحول نحو الودائع البنكية والسندات غير الحكومية جاء بحثًا عن عائد حقيقي في مواجهة التضخم، لكنه في الوقت نفسه يرفع درجة حساسية الصناديق لأي تغير مفاجئ في السياسة النقدية.
وأشار إلى أن محدودية نمو الاشتراكات مقارنة بحجم الأصول تعني أن النمو الحالي يعتمد بدرجة أكبر على العائد الاستثماري وليس على تدفقات نقدية تأمينية مستقرة، وهو ما قد يمثل تحديًا على المدى المتوسط إذا تغيرت ظروف السوق.
وللإجابة عن سؤال التحقيق، قال أحمد إبراهيم خبير التأمين الاستشاري، إن الحفاظ على الأرباح لا يمكن دون إدارة دقيقة للأصول والخصوم، خاصة في صناديق المزايا المحددة، مع تحديث الدراسات الإكتوارية بانتظام.
وأشار لـ”البورصة”، إلى أن ربط هيكل الاستثمار بطبيعة الالتزامات الزمنية يحدّ من مخاطر فجوات التمويل المستقبلي، إذ إن أي ربح استثماري لا يراعي التزامات الغد قد يتحول إلى عبء على الأعضاء لاحقًا.
أما إيهاب خضر، فقال إن الاستدامة الحقيقية لصناديق التأمين الخاصة تمر عبر تعزيز ثقة الأعضاء في الصندوق كأداة حماية لا كمجرد محفظة استثمار.
وأضاف لـ”البورصة”، أن الشفافية والإفصاح الدوري، وتطوير مزايا مرنة تتناسب مع الضغوط المعيشية، كلها إستراتيجيات تساعد على الحد من إنهاء العضوية، مبينًا أن الصناديق التي تحافظ على أعضائها تحافظ تلقائيًا على أرباحها ودورها الاجتماعي معًا.
وقال الدكتور خالد الشافعي، إن الحفاظ على الأرباح لا يتحقق فقط عبر رفع العائد الاستثماري، بل من خلال توسيع قاعدة المشتركين وربط الصناديق بسوق العمل الحقيقي.
أضاف أن اتساع القاعدة التأمينية وتنوع جغرافيا القطاع وتراجع حساسية الصناديق للدورات المالية وتوسيع الانتشار خارج القاهرة واستهداف شرائح العاملين في القطاع الخاص وشبه الرسمي، هي إستراتيجيات الاستدامة الأكثر أمانًا، بدل الاعتماد المفرط على تقلبات السوق.
وقال الدكتور حازم حسانين، إن استدامة صناديق التأمين الخاصة تتطلب الانتقال من منطق “تعظيم العائد” إلى منطق “العائد المعدل بالمخاطر”.
وأضاف أن تنويع المحافظ الاستثمارية بين أدوات قصيرة وطويلة الأجل والحد من تركّز الودائع والسندات لدى عدد محدود من الأطراف، يقلل المخاطر الائتمانية والسيولة.
كما أشار إلى أن بناء احتياطيات وقائية خلال سنوات الأرباح المرتفعة قد يوفّر مظلة أمان عند انعكاس الدورة النقدية.








