لفت نظرى خبر تداولته وسائل الإعلام الاقتصادية المُتخصصة أواسط الشهر الماضى عن قيام شركة “بروج الإماراتية للاستثمارات البترولية والغاز” بإسناد عقد بناء مصفاة نفطية جديدة فى الفجيرة إلى مجموعة “سينر الهندسية” الإسبانية.
بعد كل هذه السنوات إذاً، بعد عقود وعقود من تصدير دول الخليج للنفط إلى جميع أنحاء العالم، بعد أن تضاعف الناتج المحلى الإجمالى لهذه البلدان عشرات المرات منذ سبعينيات القرن الماضى (من حوالى 14 مليار دولار عام 1975 إلى 414 مليار دولار تقريباً عام 2018 فى حالة الإمارات)، بعد أن تحولت صحرائها القاحلة الجرداء إلى مدن حديثة تضاهى مثيلاتها فى كبريات الدول الأوروبية وتلك الموجودة فى الولايات المتحدة الأمريكية وكندا أو فى جنوب شرق آسيا، حيث النمور الاقتصادية العملاقة، بعد كل ذلك نجد أن إحدى الدول التى تزعم أنها الأكثر تقدماً وحداثة على مستوى الخليج والمنطقة العربية – وربما هى كذلك بالفعل – لاتزال غير قادرة على بناء مصفاة نفط وهى من أهم ركائز الصناعة المُمثلة لنسبة 25% تقريباً من الناتج المحلى الإجمالى لدولة الإمارات العربية المتحدة، والتى تستحوذ أيضاً على سابع أكبر احتياطى للنفط الخام فى العالم وتنتج حوالى 3.1 مليون برميل بترول يومياً، أى 3% من إجمالى الإنتاج العالمى على وجه التقريب.
بعد أن أثبتت الأزمات العالمية منذ حرب أكتوبر 1973 فاعلية النفط كأداة للضغط السياسى، بعد أن صارت السعودية قادرة على معاملة الولايات المتحدة معاملة الند بالند لكونها ثالث أكبر مُنتج للنفط على وجه الكرة الأرضية، بعد أن تكونت لدى دول الخليج ثروات طائلة منبعها البترول، بعد كل ذلك لاتزال هذه الاقتصادات الضخمة تتبع العالم الغربى الذى يمتلك التكنولوجيا والمعرفة المطلوبين لتحويل تلك المادة اللزجة إلى ذهب أسود يسعى وراءه الجميع.
ويطرح ذلك الوضع سؤالاً مهماً حول ما إذا كانت هناك فى الخليج “صناعة” نفط أساساً أم أنه مجرد نشاط شبه طُفيلى يعتمد على استغلال موارد طبيعية موجودة وبيعها للخارج دون القدرة على إضافة قيمة حقيقية للمادة الخام دون تدخل الغير؟
فى هذه اللحظة تُشير جميع المعطيات إلى الاتجاه الثانى، حيث تتحكم شركات الغرب العملاقة، خاصة المؤسسات الأمريكية بالطبع، فى الصناعات التحويلية الخاصة بالنفط فى المنطقة العربية وغيرها من المناطق – مثل نيجيريا – وباستثناء الدب الروسى الذى لم يتمكن العم سام من قهره حتى بعد انهيار الاتحاد السوفييتى.
أم أكبر الدول العربية المُنتجة للنفط (على الترتيب: السعودية والعراق والإمارات والكويت) فلا زالت تخضع لها خضوع كامل وغير مشروط حيث تتحكم فيها بالإمارات العربية المتحدة على سبيل المثال 3 شركات أمريكية (“إكسون مويبل” و”بينز أويل” و”كالتكس”) وشركتى “باريكس” و”توتال” الفرنسيتين و”ميوتسوى” و”جودكو” اليابانيتين و “بى بى” البريطانية، بالإضافة إلى “شل” الهولندية وهؤلاء هم المتحكمين الفعليين فى الإنتاج وهم أيضاً من يقررون إلى أى من مقاولى الباطن تذهب عقود البنية التحتية النفطية المُربحة ومن سيستفيد منها وهم بالتالى يرفضون رفضاً تاماً أى نقل حقيقى للتكنولوجيا إلى الدول الغنية بالنفط حتى الآمر الناهى والسيد الأوحد.
والحقيقة المُرة هى أن لا أحد على الجانب العربى الخليجى يملك سبل فعالة وقابلة للتطبيق على أرض الواقع للخروج من هذا المأزق التراجيدى على المدى القصير أو المتوسط لأن هذه الدول هى نفسها من تسببت فيه وارتمت راضية وبحر إرادتها فى أحضان التبعية للغرب عندما فضلت الربح السريع الفورى والثراء الشخصى الفاحش لمجموعات من الأفراد على توطين حقيقى لتكنولوجيا استخراج ومعاملة النفط والانفاق على برامج بحثية وتطويرية طويلة المدى.
صحيح أن المنشأت نفسها موجودة فى أراضى تلك الدول الخليجية ولكن لا بناؤها ولا تشغيلها ممكن دون التواجد الغربى وبما بصل إلى حد الأفراد العاملين بها حيث تسيطر العمالة الأسيوية الأفضل تأهيلاً من الناحية المهنية المتخصصة على هذا السوق بشكل كبير ويقع أمر تشغيلها من عدمه فى يد الشركات الأجنبية الكبرى سابقة الذكر.
ومن ثم قد يذهب عائد بيع البترول الخليجى إلى خزانة الدول التى يُستخرج من أراضيها ولكن القرارات المصيرية والمؤثرة سياسياً مثل تحديد أسقف الإنتاج وكيفية التوزيع والدول المستوردة للنفط الذى ينتجه الخليج إلخ، فلا تتخذها هذه الدول بنفسها ولا تلعب فيها منظمة الدول المُصدرة للبترول “أوبك” سوى دوراً هامشياً على المستوى الشكلى يتعلق ببعض الأمور التنظيمية البحتة وما لم تُغير دول مجلس التعاون الخليجى” نهجها واتجهت لامتلاك البنية التحتية الصناعية وتمكنت من بناء برنامج “أبحاث وتطوير” قوى كى تتوفر لها التكنولوجيا اللازمة لتشغيلها وصيانتها على المدى الطويل دون الحاجة إلى اللجوء لشركاء أجانب ينظرون إلى ما هو أبعد من المكسب المادى، سيظل الأمر هكذا إلى أبد الأبدين دون أمل فى أى تقدم تستفيد منه الأجيال القادمة لشعوب المنطقة.
بقلم: محمد شيرين الهوارى
الخبير فى الاقتصاد السياسى








