بعد أسابيع قليلة من تفشى وباء فيروس كورونا، انجرفت البنوك المركزية الأكثر قوة فى العالم، مجدداً، إلى قلب إدارة الأزمات، وكيفية خروجهم من هذه الحالة الطارئة – وكيف ستؤثر على استقلالهم السياسى ومهامهم وموثوقيتهم – لا يتعلق بما يقومون به بقدر ما يتعلق بما يحدث حولهم.
وبعد عصر ذهبى كرست فيه البنوك المركزية نفسها لضبط التضخم وفى بعض الأحيان ترويض الدورات التجارية المتقلبة، تشوهت سمعتهم بسبب الأزمة المالية العالمية في 2008 والركود الذى تلاها.
ولكن السياسة العنيفة المتعلقة بفعل “ما يتطلبه الأمر” ساعدتهم أخيراً على كسب هذه الحرب، ولكن الاعتماد المطول والمفرط عليهم – نتيجة فشل معظم الدول المتقدمة في التحول نحو سياسة أكثر شمولية – أفقدهم سلامهم.
وفي الأزمة الحالية، التي ستشكل شكل حياة الجيل، ذهبت البنوك المركزية لتطبيق كل الأدوات الممكنة، ووظفت تدخلات طارئة فى وقت قياسى تجاوزت حتى الخطوات المتخذة خلال الأزمة المالية العالمية وما تلاها.
وما فعلوه بالفعل مثير للدهشة، وتضمن خفض أسعار الفائدة والشروع في برامج شراء أوراق مالية واسع النطاق وإعادة فتح نوافذ التمويل الطارئ وخلق نوافذ جديدة.
ونطاق هذه الاستجابة غير مسبوق كذلك.
ووسع “الاحتياطى الفيدرالى” ميزانياته حالياً إلى 6 تريليونات دولار وهى زيادة بمقدار 2 تريليون دولار فى أقل من شهر، كما اتخذ خطوات استثنائية لتخفيف القواعد المنظمة بهدف مساعدة البنوك على لعب دور مهم فى مجهودات الإغاثة.
كما أنه لايزال يعمل بشكل وثيق مع وزارة الخزانة، ويغامر فى مناطق كانت تعتبر من قبل محظورة سواء بسبب المخاطر التى تنطوى عليها أو احتمالية انحرافها الخطير.
وكما يقول المثال القديم “خير تعمل شراً تلقى”، فبقدر ما كانت التدخلات العنيفة مرحبا بها فى احتواء الضرر الاقتصادى الحاد، لا ينكر أحد التكاليف والمخاطر التى تأتى معها.
وهذه المخاطر ليست فقط اقتصادية ومالية إنما مؤسسية وسياسية كذلك، والتى تتضمن ما يلى:
أولاً.. يعرض “الفيدرالى” نفسه لمخاطر تذهب إلى خارج سيطرته من خلال تعريض ميزانيته لقطاعات مختلفة من الاقتصاد سواء بشكل مباشر أو بالشراكة مع وزارة الخزانة، وتتضمن مخاطر الائتمان المتطرفة التى تأتى من التعثر والإفلاس.
ثانياً.. من خلال “ضخ السيولة الهائل” لدعم الأسواق، يمكن أن تساهم البنوك المركزية مجدداً دون قصد في تعزيز سلوكيات المستثمرين التى تسببت دوماً فى انفصال تقييمات الأصول عن الأسس الاقتصادية الكامنة.
وبالفعل، ارتفع سوق الأسهم استجابة لنشاط الفيدرالى الزائد، وستكون النتيجة استمرار التقليل من مخاطر السيولة وتعمق الاعتماد غير الصحي بين البنوك المركزية والأسواق، بجانب ازدياد مخاطر الاستقرار المالي في المستقبل.
ثالثاً.. يعنى انجراف البنوك المركزية لقلب إدارة الأزمات، وقيامها بالكثير من القرارات وسط “ضباب الحرب”، أن فرص ارتكابها الأخطاء مرتفعة بشدة وكذلك احتمالات تغييرها لمواقفها.
رابعاً.. من خلال جذب مزيد من الانتباه لتريليونات الدولارات التي يتم توظيفها لتجنب انهيار الأسواق، فتح “الفيدرالى” الباب على نفسه مجدداً لاتهامات أنه يميل لجانب القطاع المالى، وفي الوقت نفسه، تنتشر وجهة نظر مدمرة وغير عادلة على وسائل التواصل الاجتماعى، وهى أن البنك المركزى يهتم أكثر بأغنى 1% من رفاهية الشعب ككل.
وستتضاعف المخاطر كلما طال الوقت قبل إعادة فتح الاقتصاد، وكلما استمر الإغلاق، ازدادت تهديدات تحول مشكلات السيولة إلى إفلاس، وكثرت الأسئلة بشأن حكم “الفيدرالي” على الأمور وكفاءته، وهو ما سيؤدى إلى تجدد المخاطر فى السوق فى وقت يضع فيه “الفيدرالى” موارد هائلة لدعم الاقتصاد.
ولسوء الحظ، لن تنتهى هذه المخاطر بمجرد مرور فترة إدارة الأزمات الاستثنائية، بل ستمتد إلى المرحلتين المقبلتين، وهما إعادة فتح الاقتصاد والمشهد السياسى بعد الأزمة.
ومع الوقت يصبح من الواضح أن إعادة فتح الاقتصاد لن تكون فورية أو عامة، كما كان يأمل الجميع، بل تزداد احتمالات أن إعادة فتح الاقتصاد سواء على المستوى المحلى أو فى الاقتصادادت العالمية، سيثير مجموعة جديدة من التحديات للبنوك المركزية والحكومات والشركات والأسر.
وبعد ذلك، سنحتاج إلى الإبحار في مشهد يتضمن أكثر من مجرد تفكيك التداخل الشديد بين نشاطات القطاعين العام والخاص، وقد نواجه بيئة تتسم بمزيد من التباطؤ فى استجابات العرض والطلب.
ومع التحول المتوقع فى تركيز الشركات من الكفاءة إلى المرونة، ينبغى أن نتوقع أن العديد من الشركات العالمية ستعيد توزيع سلاسل إمدادها حتى إذا كان يعني ذلك التضحية بالتكلفة، وهذه العملية ستسرع الاتجاهات السائدة بالفعل لتقليص العولمة.
وسيؤدى كل ذلك، على الأقل فى المدى القصير، إلى تراجع فى الإنتاجية يصاحبه مخاطر عالية بظهور شركات “الزومبي” ـ أي غير القادرة على سداد التزاماتها أو التى تقل إيراداتها عن مصروفاتها – نتيجة الدعم المالى الهائل التي تقدمه الحكومات والبنوك المركزية، وفى الوقت نفسه تواصل مديونية الشركات الارتفاع، وكذلك الحكومات.
وكلا الاتجاهين قد يضعان مزيدا من الضغوط على “الفيدرالي” تجنبا لرفع الفائدة في السنوات المقبلة.
أما على جانب الطلب، فقد تتجنب الأسر المخاطر، وقد لا تستجيب للسياسات التحفيزية التي ستلي مرحلة الإغاثة الحالية، وكلما استمرت فترة الأزمة وأصبح من الصعب إعادة تشغيل الاقتصاد، ازدادت احتمالات تكرار جيل مقتصد مثل جيل الكساد الكبير.
ومن الأهمية أن نذكر أن الاستجابة الأمثل للبنوك المركزية لكل أوجه عدم اليقين تلك ليس الجمود، وإنما مواصلة العمل الجاد على تحليل السيناريوهات والتواصل داخلياً وخارجياً ومواصلة تخطيط الطوارئ والتغذية الراجعة وتعديل المسار كلما تتطلب الأمر، ولتجنب أخطاء الأزمة المالية العالمية، يجب أن تدعم هذه المجهودات نهج يتضمن “كل الحكومة” الذى يجمع بين المحفزات ومجموعة من الإصلاحات الهيكلية التى تستهدف مكافحة الضغوط الهبوطية على الإنتاجية وإمكانات النمو.
وبخلاف ذلك، قد تنجح البنوك المركزية مجددا في كسب الحرب ضد الركود، ولكنها ستكون جزءاً من نظام يفشل في أن يحقق سلام النمو الشمولى المستديم.
بقلم: محمد العريان، مستشار اقتصادى لمجموعة “أليانز”، رئيس كلية كوينز بجامعة “كامبريدج”
إعداد: رحمة عبدالعزيز
المصدر: وكالة أنباء “بلومبرج”