نحن ننظر إلى ديون الولايات المتحدة الآن على أنها أعمق أسواق الأوراق المالية وأكثرها سيولة في العالم.. لكن هذا لم يحدث من تلقاء نفسه.
لا يسعّر المستثمرون سندات الخزانة بالطريقة التي يتعاملون بها مع أي سندات أخرى، وقد حظي هذا بالتشجيع من المنظمين، الذين يوجهون البنوك للتعامل مع الديون السيادية الأمريكية كأصل خال من المخاطر
في شهادة أمام الكونجرس قبل 30 عاما تقريبا، نشر جاي باول مخططا بينيا، وكان في ذلك الوقت يعمل مساعد وزير الخزانة.
وأظهر باول، أنه نظرا لأن الحكومة الفيدرالية زادت مبيعات السندات كل عام تقريبا بين عامي 1980 و 1990، فقد استمر العائد على سندات أجل 30 عاما في الانخفاض.
هذا المخطط البياني لم يتغير بعد، وتواصل وزارة الخزانة بيع المزيد من السندات كل عام، واستمرت الفائدة التي تدفعها في الانخفاض، وتعد العوائد المنخفضة هي انتصار للممارسة العملية على النظرية، لذلك تحتاج النظرية إلى مراجعة، فإذا كنا لا نعرف سبب انخفاض العائد، فإننا لا نعرف متى أو كيف سترتفع مرة أخرى.
وتمثل تلك مشكلة خاصة لباول، الذي بصفته الرئيس الحالي للاحتياطي الفيدرالي مسؤول عن أكبر مالك ومشتري للديون الأمريكية في العالم، وفي عام 1991، عزا باول السبب في انخفاض العائدات جزئيا إلى العمل الذي قامت به إدارته لجعل مزادات الديون منتظمة ويمكن التنبؤ بها.
نحن ننظر إلى ديون الولايات المتحدة الآن على أنها أعمق أسواق الأوراق المالية وأكثرها سيولة في العالم، لكن هذا لم يحدث من تلقاء نفسه إذ يشير توماس سارجنت، الخبير الاقتصادي بجامعة نيويورك الحائز على جائزة نوبل في عام 2011، إلى أنه قبل الأربعينيات، اعتاد الكونجرس تصميم كل إصدار ديون جديدة بالتفصيل – الشروط والمدة والمبالغ، وكل الديون الجديدة لها غرض محدد، وقال: “يمكنك استخدام هذا السند لإعادة جدولة الديون، أما هذا السند لدفع ثمن الأشياء”.
خلال الحربين العالميتين، كانت هناك حملات لإصدار السندات، وحملات دعائية لإقناع الناس بحبس أموالهم في نوع معين من الديون لسبب محدد، ولم يعد يحدث أي من ذلك بالنسبة للديون الفيدرالية، وابتداء من أوائل السبعينيات، بدأت وزارة الخزانة في وضع جدول زمني واضح للمزادات، وبحلول منتصف الثمانينيات من القرن الماضي، أنشأت نظاما محاسبيا سهّل تداول سندات الدين الأمريكية.
كان الهدف جعل شراء سندات الخزانة أكثر جاذبية، وخفض تكاليف الاقتراض، وأفلح الأمر، لكنها أيضا فصلت تماما التخصيص – أي الغرض من التمويل – عن الاقتراض، ولم تكن هناك أي حملة سندات للحرب في أفغانستان والعراق، لأنه لم تكن هناك حاجة لها إذ وضع الكونجرس المخصصات، ووزارة الخزانة أدارت المزادات المنتظمة، واقترضت أمريكا، وانخفض العاد، ولم يهتم المستثمرون.
وعندما أصبح السوق أكثر عمقا وسيولة، بدأنا نفقد أي منطق لكيفية تقييم سندات الخزانة كورقة مالية، والتقى هانو لوستج، الاقتصادي في كلية الدراسات العليا للأعمال في ستانفورد، العام الجاري بالعديد من الباحثين الآخرين لاكتشاف طرق لتسعير محفظة سندات الخزانة الأمريكية بالكامل.
وجدوا طريقتين لتفسير سبب انخفاض العائد، الأول هو أن المستثمرين يواصلون التفكير في أن الولايات المتحدة على وشك رفع الضرائب في ظل تصحيح مالي ضخم، وهو توقع وصفه لوستج بأنه “غير قابل للتصديق”. والثاني هو فقاعة عقلانية أي أن سندات الخزانة حالة خاصة بذاتها.
لا يسعّر المستثمرون سندات الخزانة بالطريقة التي يتعاملون بها مع أي سندات أخرى، وقد حظي هذا بالتشجيع من المنظمين، الذين يوجهون البنوك للتعامل مع الديون السيادية الأمريكية كأصل خال من المخاطر، وبدعم من الاحتياطي الفيدرالي، وفي يناير ويوليو من العام الجاري، اشترى الفيدرالي أذون وسندات من الأسواق الثانوية بما يقرب من إجمالي ما أصدرته وزارة الخزانة.
من الصعب تسعير الأصل ذات المشتري المضمون تسعيرا منطقيا، وإذا كنت تعتقد أن قيمة النقود هي دالة على كميتها، فيمكنك في ظل الفقاعة المنطقية أن تجادل بأن هناك الكثير من سندات الخزانة بالفعل.
وتحتاج الولايات المتحدة إلى التوقف عن الاقتراض على الفور، أو تخاطر بانهيار قيمة سندات الخزانة، وبارتفاع الحاد في العائدات وظهور تضخم مروع، وهذا ما يميل كلا الحزبين السياسيين إلى قوله عندما يكونان خارج المنصب أو مثلما يقول عدد متزايد من الديمقراطيين في الكونجرس إن الالتزامات الخالية من المخاطر الأمريكية لم تنهار من حيث القيمة لأنها لا يمكن أن تنهار من حيث القيمة أبدا، هذا يعني عدم وجود قيود سوقية على الاقتراض.
وبدلا من بيع الأوراق النقدية والسندات، يمكن للحكومة الفيدرالية أن تخلق بسهولة دولاراتها الخاصة، وتنفقها في الاقتصاد، وتراقب بعناية علامات تضخم الأسعار العام.
ويشير سارجنت إلى أنه قبل مزادات الخزانة العادية، كان يتعين على الكونجرس أيضا النظر في مزايا كل إصدار جديد، وماذا يشتري؟ هل نبيع سندات الخزانة لخفض الضرائب على المكونات المفضلة؟ يمكن لهذا النوع من الاقتراض أن يجعل ديون الولايات المتحدة أقل جاذبية، لأنه لا يفعل شيئا للمساعدة في خلق المزيد من الإيرادات الضريبية في المستقبل، أم أننا نبيع سندات الخزانة لشراء الأصول الإنتاجية، مثل الطرق والبرودباند وخطوط الكهرباء، التي ستزيد من قدرة الاقتصاد على الإنتاج؟ لأن سندات الخزانة هي فقاعة منطقية خاصة، فإننا لا نطرح تلك الأسئلة على الولايات المتحدة بالطريقة التي نطرحها على الاقتصادات النامية.
لكن ليست كل سندات الخزانة متشابهة، لأنها لا تشتري جميعا نفس الأشياء، وكنا نعرف ذلك من قبل ربما فقد نحتاج للتذكر.
بقلم: بريندن غريلي، محرر مساهم في “فاينانشال تايمز”.
المصدر: صحيفة “فاينانشال تايمز”.