يرى صندوق النقد الدولى أن صناع السياسات فى منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا كانوا أكثر تحفظا فى استجابتهم لقفزة أسعار السلع الأولية هذه المرة. وتؤثر القفزة الحالية فى أسعار السلع الأولية تأثيرا متباينا على البلدان المصدرة والمستوردة للسلع الأولية فى المنطقة. فالبلدان المصدرة تستفيد من التحسن الملحوظ فى معدلات تبادلها التجارى، بينما تشعر البلدان المستوردة بوطأة ارتفاع أسعار استيراد الوقود والغذاء. ومن الأسئلة الأساسية فى هذا الصدد كيف تدير البلدان هذه القفزة مقارنة بالتجربة السابقة، ولا سيما مع وقوع صدمة أسعار السلع الأولية الحالية فى سياق عالمى وإقليمى مختلف عن المرات السابقة.
وفى أحدث إصداراته من تقرير آفاق الاقتصاد الإقليمى، يبحث الصندوق كيفية تصدى بلدان الشرق الأوسط وشمال إفريقيا لارتفاع أسعار السلع الأولية وكيفية حمايتها للفئات الضعيفة.
ويقول فيليبو جورى، وجيتا مينكولاسى، الاقتصاديان فى إدارة الشرق الأوسط وآسيا الوسطى بصندوق النقد الدولى، إن هذه المهمة تنطوى على صعوبة أكبر بكثير بالنسبة للبلدان المستوردة للسلع الأولية التى لا تملك إلا حيزا ماليا محدودا. وعلى العكس من ذلك، يتمثل التحدى الراهن بالنسبة للبلدان المصدرة للسلع الأولية فى استثمار الفائض الذى حققه ارتفاع أسعار الطاقة لبناء هوامش أمان تواجه بها الصدمات المستقبلية وتحقيق تقدم فى خططها الانتقالية والمعنية بتنويع النشاط الاقتصادي.
ويلقى الكاتبان نظرة أقرب على كيفية تصدى بلدان الشرق الأوسط وشمال إفريقيا لقفزات أسعار السلع الأولية فى الماضى، وإجراءات السياسة التى تتخذها هذه المرة، وما ينبغى القيام به بعدها.
الاستجابات السابقة كانت عالية التكلفة
عندما حدثت قفزات فى أسعار السلع الأولية فى الماضى، كان رد فعل اقتصادات الأسواق الصاعدة والاقتصادات متوسطة الدخل فى الشرق الأوسط وشمال إفريقيا هو زيادة الإنفاق الحكومى التى استمرت لسنوات فى أغلب الأحوال، مما جعلها أكثر مديونية وأقل صلابة مما تقتضيه مواجهة صدمات المستقبل. وبالمثل، قامت البلدان المصدرة للنفط بزيادات فى الإنفاق إبان ارتفاع أسعار النفط واضطرت بعدها إلى إجراء تعديلات مفاجئة فى ميزانياتها حين هبطت الأسعار فى نهاية المطاف. ونظرا لشبكات الأمان الاجتماعى الضعيفة نسبيا، اعتمد صناع السياسات فى العادة على دعم الأسعار وتخفيضات الضرائب وزيادات أجور القطاع العام لتعويض خسائر الدخل الحقيقي. وقد كانت هذه السياسات ضعيفة الاستهداف، فلم توفر الحماية للأكثر احتياجا إليها. فعلى سبيل المثال، خلصت دراسات سابقة أجراها الصندوق إلى أن شريحة السكان التى يمثل دخلها أقل 40% من الدخول فى مصر والأردن ولبنان وموريتانيا والمغرب واليمن تحصل على أقل من 20% من الأموال التى تُصرَف على دعم الديزل والبنزين. وقد كان التراجع عن هذه السياسات أمرا صعبا أيضا – مما يعنى أن الميزانيات الحكومية أصبحت أكثر جمودا، وأصبحت الحكومات محصورة فى حلقة مفرغة من الاعتماد على التدخلات المالية المكلفة.
أكثر حذرا هذه المرة
وفى وسط صدمة أسعار السلع الأولية الحالية، لجأت بلدان الشرق الأوسط وشمال إفريقيا مجددا لإجراءات السياسة التى سبقت الاستعانة بها، ولا سيما دعم الأسعار وتخفيضات الضرائب، لحماية اقتصاداتها من ارتفاع أسعار السلع الأولية. ولكن الاستجابة كانت أضيق نطاقا هذه المرة.
وبالرغم من أن طفرة أسعار السلع الأولية الحالية تشبه بوجه عام فترات الارتفاع السابقة فى 2008 و2011 و2022، فمن المتوقع أن تكون زيادة الدعم أقل مما حدث فى الفترات السابقة، حوالى 50% مما كانت عليه فى ذروتها أثناء فترات الارتفاع السابقة بالنسبة للبلدان المصدرة للنفط واقتصادات الأسواق الصاعدة والاقتصادات متوسطة الدخل فى المنطقة.
ويقول الاقتصاديان إن هذا يعكس محدودية الحيز المالى فى تلك المجموعة الأخيرة من الاقتصادات، والتحسن فى توجيه الدعم للمستحقين فى بعض البلدان، والتقدم فى إصلاح الدعم. فعلى سبيل المثال، سمحت الأردن وموريتانيا والمغرب وباكستان والمملكة العربية السعودية وتونس والإمارات العربية المتحدة بزيادة أسعار البنزين المحلية. ومن المهم أيضا أن معظم البلدان المصدرة للنفط ادخرت أرباح نفطها حتى الآن.
فرصة لاستخلاص الدروس من الماضى
أضاف الكاتبان أن الآفاق يخيم عليها قدر كبير من عدم اليقين. وتتمثل المخاطر الراهنة فى احتمال بقاء أسعار السلع الأولية على ارتفاعها لفترة أطول، وتشديد أوضاع التمويل وتقلبها، وتباطؤ الطلب الخارجى بدرجة أكثر حدة من المتوقع. وإذا لم يتم التعامل بالشكل الملائم مع الصدمات السعرية، فقد تتسبب فى تهديد الاستقرار الاجتماعي. وفى الوقت ذاته، قد تواجه البلدان المصدرة للنفط ضغوطا لإنفاق الفائض من الإيرادات النفطية، ولا سيما فى المجالات التى يصعب التراجع فيها بعد هبوط أسعار النفط، مثل التوظيف وزيادات الأجور فى القطاع العام.
وتؤكد تجربة الماضى أهمية الاستجابة بصورة مختلفة هذه المرة لتوفير الحماية بأعلى درجات الفعالية للفئات الضعيفة، مع ضمان بقاء الدين فى حدود مستدامة وتجنب ظهور مواطن جمود جديدة فى الميزانية، نظرا لتحديات التراجع عنها. ومن ثم، فسيكون من المهم كسر الحلقة غير المستدامة للاعتماد على زيادة الإنفاق الحكومى غير الموجه، والقيام بدلا من ذلك باختيار تدابير تركز على الأشد احتياجا لتخفيف أثر تآكل الدخول الحقيقية.
ودعا الكاتبان إلى القيام بإصلاحات لتحسين الصلابة فى مواجهة صدمات أسعار السلع الأولية فى المستقبل. وتشمل هذه الإصلاحات الإلغاء التدريجى لدعم الطاقة التنازلى مع تعزيز شبكات الأمان الاجتماعى، مما يعزز العدالة ويخلق حيزا ماليا للإنفاق الرأسمالى الداعم للنمو؛ والتحول نحو استخدام الطاقة على نحو أكثر خضرة وكفاءة لتخفيض الاعتماد على استيراد الطاقة والتعرض لتقلبات أسعار النفط؛ وتدعيم تعبئة الإيرادات عن طريق الإصلاحات الضريبية من أجل زيادة الحيز المالى المتاح للبلدان المستوردة للنفط وتنويع الإيرادات بعيدا عن الهيدروكربونات بالنسبة للبلدان المصدرة للنفط.
وأخيرا، ينبغى أن تواصل بلدان الشرق الأوسط وشمال إفريقيا تعزيز الحوكمة وإدارة المالية العامة عن طريق تحسين الشفافية والمساءلة، والتحرك نحو أطر مالية متوسطة الأجل، واعتماد قواعد مالية. ومن شأن هذه الإجراءات أن تحول دون التوسع المالى المكلف وغير الموجه الذى اتسمت به الاستجابات السابقة، مع خلق الحيز المالى اللازم لتعزيز الإنفاق الاجتماعى.








