وتيرة النمو قد لا تكون مستدامة حتى لو استمر الإنفاق العسكري الكبير
ألقى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، كلمة أمام حشد من الناشطين يوم الجمعة، في تولا عاصمة صناعة الأسلحة الروسية، مستبشرًا بهزيمة اقتصاد البلاد للعقوبات الغربية التي فُرضت بعد غزوه لأوكرانيا.
كان الرئيس الروسي يشعر بالفخر بأن اقتصاد روسيا لم يصمد أمام عقوبات الدول الغربية فحسب، بل أصبح الآن أكبر من كل تلك الدول باستثناء اثنتين، وكان يشير إلى تصنيف البنك الدولي للناتج المحلي الإجمالي من خلال تعادل القوة الشرائية، والذي تتفوق فيه روسيا قليلاً على ألمانيا.
والثلاثاء الماضي، بدا أن صندوق النقد الدولي وافق على تصريحات بوتين، إذ عدل توقعاته لنمو الناتج المحلي الإجمالي لروسيا إلى 2.6% هذا العام، بزيادة 1.5% عن توقعات أكتوبر الماضي.
شعر العديد من الاقتصاديين بالذهول من مرونة الاقتصاد الروسي، بعد أن كانوا يعتقدون أن الجولة الأولى من العقوبات المفروضة بسبب غزو أوكرانيا قبل قرابة العامين قد تؤدي إلى انكماش كارثي.
ويقولون إنه بدلاً من ذلك، وجد الكرملين طريقه للخروج من الركود من خلال تفادي محاولات الغرب لتقييد إيرادته من مبيعات الطاقة، فضلاً عن زيادة الإنفاق الدفاعي.
توجه روسيا ثلث ميزانيتها، والتي بلغت 9.6 تريليون روبل في 2023 و14.3 تريليون روبل في 2024، نحو جهود الحرب، وهي زيادة بمقدار ثلاثة أضعاف عن 2021، وهو آخر عام كامل الغزو.
وهذا الإنفاق لا يشمل إنتاج المعدات فحسب، بل أيضًا دفع المدفوعات الاجتماعية المرتبطة بالحرب لأولئك الذين يقاتلون في أوكرانيا وأسرهم، إضافة إلى بعض الإنفاق على الأراضي المحتلة.
حذر كبار المسؤولين الاقتصاديين في عهد بوتين من أن ارتفاع الإنفاق العام يأتي بمخاطر فورة في النشاط الاقتصادي في المستقبل القريب، لكنه يحافظ حاليًا على النمو القوي.
وكل هذا لم يكن ممكنًا إذا لم تستمر روسيا في توليد إيرادات هائلة من موارد الطاقة لديها، رغم العقوبات.
بلغت إيرادات الطاقة في روسيا 8.8 تريليون روبل في 2023، بانخفاض بنحو ربع الرقم القياسي المسجل خلال 2022، لكنها تفوق متوسط الأعوام العشرة الماضية.
ومع ذلك، اضطرت الدولة للجوء إلى أساليب غير منتظمة بشكل متزايد لتوليد إيرادات من الضرائب والرسوم لمرة واحدة، بما فيها “التبرعات الطوعية” التي يجب على الشركات الغربية دفعها عند مغادرتها روسيا.
عندما أعلن وزير المالية أنطون سيلوانوف في سبتمبر عن الإنفاق العسكري الروسي الهائل أمام المشرعين، استخدم شعارًا سوفييتيًا من الحرب العالمية الثانية لوصف نهج الكرملين تجاه الميزانية، إذ قال :”كل شيء من أجل الجبهة، كل شيء من أجل النصر”.
يعتبر تحول الكرملين إلى ما يطلق عليه فاسيلي أستروف، الاقتصادي في معهد فيينا للدراسات الاقتصادية الدولية، “الكينزية العسكرية”، تحولاً جذرياً عن السياسة الاقتصادية المحافظة التي انتهجها بوتين في العقدين الأولين لحكمه.
ساعد التكنوقراط، مثل سيلوانوف ومحافظ البنك المركزي إلفيرا نابيولينا، في توجيه روسيا خلال أزمات مالية متعددة عبر استهداف التضخم بقوة، وتعزيز النظام المصرفي في البلاد، وبناء احتياطيات العملات الأجنبية، ومحاولة كبح الإنفاق الزائد.
هذا النهج أثبت أهميته في تخفيف التأثير الأولي للعقوبات في بداية الحرب، عندما جمدت الدول الغربية 300 مليار دولار من احتياطيات روسيا السيادية، وفرض الكرملين ضوابط على العملة لوقف هجرة رؤوس الأموال.
تقول ألكسندرا بروكوبينكو، المسؤولة السابقة في البنك المركزي الروسي، إن “الكتلة الاقتصادية (وزارة المالية والبنك المركزي) تواصل إنقاذ النظام.. لقد أثبتت أنها أكثر فائدة لبوتين من الجنرالات”.
كما قال أستروف إن تجنب حدوث انكماش أكبر في الاقتصاد سمح للكرملين بالتركيز على تحفيز النمو من خلال الإنفاق.
ورغم أن السلطات تواصل رسميًا الإشارة إلى الحرب في أوكرانيا باعتبارها “عملية عسكرية خاصة”، تحول اقتصاد البلاد بأكمله نحو الإنتاج من أجل الحرب.
تشير تقديرات وزارة المالية الروسية إلى أن التحفيز المالي المرتبط بالحرب في الفترة 2022-2023 يعادل نحو 10% من الناتج المحلي الإجمالي.
وفي الفترة نفسها، ارتفع الإنتاج الصناعي المرتبط بالحرب بنسبة 35%، بينما ظل الإنتاج المدني ثابتًا، وفقًا لبحث نشره معهد بنك فنلندا للاقتصادات الناشئة.
وزعم بوتين يوم الجمعة أن الإنتاج المدني زاد بنسبة 27% منذ بداية الحرب، لكنه لم يذكر مصدرًا لهذا الرقم.
ومع ذلك، حذر الاقتصاديون وحتى بعض كبار التكنوقراط في الكرملين من أن الإنفاق المفرط يكشف عن تصدعات جديدة في الاقتصاد الروسي، فبدلاً من تقليل اعتمادها على مبيعات البترول والغاز، التي تشكل نحو ثُلث دخل الميزانية، أنشأت حملة بوتين في وقت الحرب إدماناً جديداً، وهو الإنتاج العسكري.
وكتب الاقتصاديون في معهد فيينا للدراسات الاقتصادية الدولية في ورقتهم البحثية التي صدرت في يناير: “كلما طالت الحرب، أصبح الاقتصاد أكثر إدمانًا على الإنفاق العسكري.. وهذا يثير شبح الركود أو حتى الأزمة الصريحة بمجرد انتهاء الصراع”.
إذا فشلت العقوبات في منع روسيا من الإنفاق، فإن القيود المفروضة على الوصول إلى الأسواق الدولية كانت سبباً في ارتفاع تكلفة الواردات، وهذا سيخلق فخاً اقتصادياً محتملاً آخر للكرملين.
المسارات الطويلة التي تسلكها البضائع الآن للوصول إلى روسيا تؤثر بشكل كبير على المستهلكين وتُضعف الروبل، الذي فقد حوالي 30% من قيمته مقابل الدولار خلال 2023.
يذكر أن الارتفاع الكبير في الإنفاق العام أدى إلى ارتفاع التضخم إلى ما بين 7% و7.5%، ما دفع البنك المركزي إلى رفع سعر الفائدة الرئيسي إلى 16%، وهو معدل أعلى حتى من نظيره في أوكرانيا.
ويقول الاقتصاديون إن وتيرة النمو قد لا تكون مستدامة حتى لو واصلت روسيا مستواها الحالي من الإنفاق العسكري.
ويرى اقتصاديون آخرون أن الاقتصاد الروسي كان لينمو في أعوام متتالية بمستوى أكثر استدامة لو لم يأمر بوتين بغزو أوكرانيا على نطاق واسع.