تجاوزت قيمة القروض الممنوحة للقطاع الخدمي بالعملة المحلية، تمويلات القطاع الصناعي منذ فبراير الماضي، على عكس المألوف، رغم توفير مبادرات للأخير تدعم التوسع في الطلب الائتماني.
وأثارت الفجوة تساؤلات بشأن الدوافع التي قادت لهذا التحول، وما إذا كانت تداعيات السوق تقف وراء ذلك؟ أم أن البنوك أعادت رسم أولوياتها في منح القروض الائتمانية وفقًا لرؤية ما؟.
وسجلت القروض الممنوحة للقطاع الخدمي 995.1 مليار جنيه، مقابل تمويلات بقيمة 963 مليار جنيه للقطاع الصناعي، خلال مايو الماضي، بحسب النشرة الشهرية للبنك المركزي.
وكان البنك المركزي المصري ، وجه البنوك في فبراير الماضي، ببدء تفعيل مبادرة تمويل الصناعة بسعر عائد مُخفَض عند 15%، وذلك عقب صدور موافقة مجلس الوزراء على إطلاق المبادرة التي تحدد سقفها عند 30 مليار جنيه، وفقًا لما جاء في الكتاب الدوري الصادر عن البنك المركزي.
بداية، قال حسن الشافعي، رئيس لجنة تنمية المشروعات الصغيرة والمتوسطة بجمعية رجال الأعمال المصريين، إن تقلص حجم القروض الممنوحة للقطاع الصناعي لصالح الخدمي، يرجع إلى تغير نمط الإقراض داخل القطاع المصرفي المصري خاصة خلال الفترة الأخيرة، موضحًا أن البنوك أصبحت أكثر ميلًا لمنح القروض للمشروعات الخدمية.
وأضاف لـ”البورصة”، أن البنوك تعتقد أن في المشروعات الخدمية ضمانًا أكبر لأموالها، نظرًا لسرعة دورة رأس المال فيها وسهولة استرداد العائد، مشيرًا إلى أن المستثمر الراغب في إنشاء مطعم أو مقهى يحصل على التمويل بسهولة، بينما يواجه المستثمر الصناعي إجراءات طويلة تمتد لسنوات قبل الحصول على القرض.
وأكد الشافعي، أن منهجية البنوك في منح التمويلات انعكست على توجهات الشباب، الذين بات أغلبهم يفضلون تأسيس مشروعات خدمية على حساب الصناعية، كونها أسرع في تحقيق العائد وأيسر في التعامل مع الحكومة.
وأشار إلى أن معظم المشروعات الصغيرة والمتوسطة ومتناهية الصغر أصبحت تتركز في المجالات الخدمية، مع تقلص شهية المستثمرين تجاه الصناعة بسبب تعقيدات التمويل والتراخيص.
ورغم توفير مبادرات تمويلية للقطاع الصناعي، واهتمام الدولة البالغ بدعم القطاع، إلا أن البنوك ما زالت تمثل عقبة أمام نمو الصناعة، مؤكدًا أن تسهيل التمويل يمكن أن يغير الصورة تمامًا ويعيد للصناعة دورها كقاطرة رئيسية للإنتاج، كما حدث في الصين واليابان التي منحت تمويل الصناعة أولوية قصوى.
أضاف أن البنوك تحقق أرباحًا قياسية دون أثر حقيقي مستدام على الاقتصاد المحلي، مطالبًا إياها بضرورة تبني سياسة أكثر دعمًا للصناعة والنمو والتنمية.
كما شدد على أهمية توحيد مصادر البيانات الاقتصادية وتحديثها بانتظام لضمان الدقة وتمكين متخذي القرار من وضع الخطط اللازم اتباعها لتحقيق التنمية.
فودة: تأسيس المصانع يحتاج استثمارات كبيرة وانتظار تحقق العوائد على المدى الطويل
وقال معتز بالله فودة، مدير قطاع السياسات والتشريعات بجهاز تنمية المشروعات المتوسطة والصغيرة ومتناهية الصغر بمجلس الوزراء، إن التطور التكنولوجي الذي شهده العالم خلال السنوات القليلة الماضية ، أحدث تحولًا في طبيعة المشروعات داخل مصر، إذ أصبحت المشروعات الخدمية أكثر سهولة في التأسيس مقارنة بالصناعية.
وتابع: “إنشاء مشروع خدمي عبر تطبيق إلكتروني أصبح أسرع وأيسر مما دعم إقبال الشباب عليها، مقارنة بإنشاء مصنع يحتاج إلى تراخيص وموافقات طويلة”.
أضاف فودة، أن المشروعات الصناعية يتطلب إنشاؤها فترات طويلة ، بجانب الإجراءات الجمركية المرتبطة بمستلزمات الإنتاج، فضلًا عن ارتفاع تكاليف تأسيس المصانع التي تحتاج استثمارات كبيرة لتوفير الآلات والمعدات بخلاف العمالة والضرائب والتأمينات، كما أن العوائد تتحقق على المدى الطويل.
وأشار إلى أن تمويلات القطاع السياحي شهدت طفرة كبيرة خلال الفترة الماضية، ما أدى إلى نمو القروض الموجهة للقطاع الخدمي، سواء من خلال توسع المشروعات القائمة لمواكبة الطلب المتزايد، أو تأسيس كيانات جديدة تخدم القطاع.
أضاف أن النمو العمراني الكبير والتوسع بإنشاء مدن جديدة أسهم أيضًا في التوجه نحو المشروعات الخدمية، نظرًا لاحتياجها إلى خدمات الإسكان والنقل والمرافق واللوجستيات أكثر من احتياجها إلى مصانع جديدة.
وجميع تلك العوامل دفعت البنوك إلى تفضيل تمويل الأنشطة الخدمية على حساب الأنشطة الصناعية، حتى في ظل وجود أسعار فائدة تنافسية على القروض الصناعية.
قال فودة، إنه رغم محددات البنك المركزي بأن تصل نسبة تمويلات قطاع الشركات الصغيرة والمتوسطة ومتناهية الصغر إلى 25% من إجمالي المحفظة الائتمانية، ما يدعم إجمالي التمويلات الممنوحة للقطاع الصناعي، إلا أنها لا تتجاوز 20% في أغلب البنوك.
وشدد على ضرورة توجيه الاهتمام نحو ظاهرة التوسع في التمويل الخدمي على حساب الصناعي، والذي يوطد في أذهان المستثمرين البحث عن المشروعات ذات الربحية الأسرع والتكلفة الأقل، دون تحقيق تنمية اقتصادية حقيقية.
شوقي: دراسة ملفات عملاء القطاع الصناعي تستغرق وقتًا بجانب الطلب بالعملة الأجنبية
وأوضح أحمد شوقي، الخبير المصرفي، أن دراسة ملفات العملاء تختلف تمامًا بين المشروعات الخدمية والصناعية، موضحًا أن منح التمويل لمشروع صناعي يستغرق وقتًا أطول، مقارنة بالخدمي، للتحقق من دورة تحويل الأصول، ومستلزمات الإنتاج، وتحليل اعتماد العميل على الاستيراد أو التصدير وبالتالي قدرتهم على السداد.
ورغم زيادة مساهمة القطاع الصناعي في الناتج المحلي الإجمالي، إلا أن الاقتصاد المحلي لم يعتمد فقط على الصناعة، بل يشغل القطاع الخدمي جزءًا ليس بالهين.
واعتبر شوقي ارتفاع تمويلات القطاع الخدمي أمرًا طبيعيًا، بفعل ارتفاع التعداد السكاني وأهمية القطاع على المستوى الحياة اليومية.
أضاف لـ”البورصة”، أن القروض الممنوحة للقطاع الصناعي بالعملة المحلية تعتبر متدنية نسبيًا، نتيجة اعتمادها بشكل أكبر على التمويلات بالعملة الأجنبية، لتوفير الآلات والمواد الخام المستوردة من الخارج.
وأرجع شوقي نمو تمويلات القطاع الخدمي إلى زيادة الاعتماد على الاتصالات والتكنولوجيا التي تشهد تسارعًا.
وأكد أن القطاعين الصناعي والخدمي معًا يمثلان أكبر مستفيدين من التمويلات البنكية بعد القطاع الحكومي.
شفيع: نمو قروض “الخدمي” جاء مدفوعًا باقتراض الشركات المالية غير المصرفية
واعتبر مصطفى شفيع، رئيس قسم البحوث بشركة عربية أون لاين، أن نمو قروض القطاع الخدمي جاء مدفوعًا بإقتراض الشركات المالية غير المصرفية، بكل ما يحويه القطاع من قطاعات داخلية مثل التمويل الاستهلاكي والتمويل العقاري.
وأكد أن تلك الشركات يتوسع نشاطها في ظل تراجع معدلات الفائدة، ما يدعم زيادة طلبها على الائتمان البنكي.
وعلى صعيد القطاع الصناعي، قال شفيع إن الشركات الصناعية تتسم بالحذر والتأني قبل اتخاذ قرارات توسعية جديدة، وسط قرارات خفض الفائدة وتقلبات الدولار وارتفاع أسعار الذهب بخلاف المشهد العالمي.
وأوضح أن مؤشر مديري المشتريات للقطاع غير النفطي يعكس بدوره حالة من التباطؤ، إذ يشير إلى تراجع الطلبات الجديدة، وانخفاض المخزون، وتباطؤ وتيرة التوظيف، وهو ما يعبر عن الحذر الذي يسيطر على النشاط الصناعي.
وقال خبير سياحي رفض نشر إسمه، إن قطاع السياحة استفاد من مبادرات البنك المركزي، لدعم المنشآت الفندقية والمشروعات السياحية المتعثرة، ومساندة من واجهوا صعوبات تمويلية، ما أسهم في تنشيط الاستثمار بالقطاع الفندقي، بعد توقف نسبي سابق.
وحققت مصر إيرادات سياحية بلغت 9.6 مليار دولار خلال الفترة من يناير حتى نهاية يوليو 2025، بنمو 22% عن الفترة ذاتها من العام الماضي، وفقًا لتصريحات تليفزيونية لشريف فتحي، وزير السياحة والآثار.
وأضاف الخبير السياحي، أن عدد السياح الوافدين إلى مصر بلغ 10.4 مليون سائح خلال الأشهر السبعة الأولى من العام، مشيرًا إلى أن الوزارة تعمل على مضاعفة الطاقة الفندقية لتلبية الزيادة في الطلب.
وتستهدف الدولة مضاعفة أعداد السائحين إلى 30 مليون سائح بحلول عام 2030، وهو ما يتطلب مضاعفة الطاقة الفندقية الحالية والتي تبلغ نحو 250 ألف غرفة، وذلك من خلال ضخ استثمارات جديدة بدعم من الإقراض المصرفي.
وأوضح أن من الطبيعي أن يتم توجيه جزء كبير من التمويلات إلى قطاع السياحة في ظل عوائده السريعة، مشددًا على أن ذلك لا يأتي على حساب الصناعة، إذ تعمل الدولة على مسارين متوازيين لدعم كلا القطاعين.
وأكد أن السياحة تتمتع بميزة العائد السريع، في حين تمثل الصناعة قاعدة إنتاجية مستدامة تدعم النمو طويل الأجل، وكلا القطاعين يكملان بعضهما البعض في منظومة الاقتصاد القومي.
وأضاف الخبير السياحي، أن عوامل الأمن والاستقرار الداخلي والخارجي جعلت من الطبيعي توجيه مزيد من التمويلات للقطاع السياحي الذي يحقق عائدًا سريعًا بمجرد تشغيل المشروعات، عكس بعض القطاعات الإنتاجية التي تحتاج فترة أطول لبدء تحقيق العائد.
وأشار إلى أن طبيعة الاستثمار الفندقي تتطلب تمويلًا مشتركًا بين رأس المال الذاتي والقروض البنكية، وهو النموذج المتبع عالميًا، موضحًا أن خفض الفائدة يسهم في تشجيع المستثمرين على التوسع في هذا النوع من المشروعات بدلاً من توجيه أموالهم إلى الودائع البنكية.
وطالب الخبير السياحي، بتأسيس بنك مختص في دعم وتمويل السياحة على غرار البنوك القطاعية الأخرى، مثل بنك التنمية الصناعية والبنك المصري لتنمية الصادرات، ليكون قادرًا على مساندة المشروعات الفندقية وقت الأزمات، في ظل عزوف بعض البنوك التجارية عن تمويل القطاعات المتعثرة.








