فى الولايات المتحدة.. «الأسود» متهم حتى تثبت براءته
أظهرت أحداث «بالتيمور» فى الولايات المتحدة– وقبلها أحداث مدينة فيرجسون- أن نار العنصرية لا تزال مشتعلة تحت رماد المدنية والتطور الأمريكيين.
فما زال السود يقتلون خارج إطار القانون، وما زالوا ضحايا تمييز على مستويات عدة، تشمل السياسة والاقتصاد والتعليم والتوظيف، وفقاً لتقارير الأمم المتحدة.
وتمثل هذه التفرقة بشكل أو بآخر امتداداً لـلتفرقة فى المعاملة بين السود والبيض فى الإسكان والتعليم والوظائف ووسائل النقل والأماكن الترفيهية، التى بدأت مع بداية تأسيس الولايات المتحدة نفسها، وبدأت مقاومة السود لهذه السياسة قبل الحرب العالمية الثانية، وخصوصاً قوانين التعليم، وظهور زعماء سود مثل مارتن لوثر كنج ومالكوم إكس.
اندلعت أعمال الشغب فى مدينة بالتيمور الأمريكية، بعد مقتل شاب أسود أعزل بعد اعتقاله على يد ضباط الشرطة البيض، الأمر الذى يمثل تصعيداً للاضطرابات العنصرية التى اندلعت فى أنحاء الولايات المتحدة فى الأشهر الأخيرة.
وأعلنت الولايات المتحدة الأمريكية حالة الطوارئ، وفرضت حظر التجوال لمدة أسبوع فى بالتيمور التابعة لولاية ميريلاند، ونشرت قوات الحرس الوطنى لوقف الاشتباكات بين مثيرى الشغب والشرطة.
وأدان ارى هوجان، حاكم ولاية ميريلاند، الاشتباكات التى تصاعدت فى الولاية، حيث نهب الشباب المحلات التجارية، وأشعلوا النيران فى سيارات الشرطة، وألقوها بالحجارة والزجاجات، ما أسفر عن إصابة 15 ضابطاً، وما زالت أعمال النهب والحرق مستمرة.
وذكرت صحيفة الفاينانشيال تايمز الأحداث بأنها أسوأ أعمال عنف شهدتها المدينة منذ نصف قرن تقريباً، ففى عام 1968 ارتفعت حدة التوترات العرقية فى أعقاب اغتيال مارتن لوثر كينج.
وصرح هوجان بأن قوات الحرس الوطنى تمثل الملاذ الأخير لاستعادة النظام، فالناس لديهم الحق فى الاحتجاج والتعبير عن إحباطهم، ولكن عائلات مدينة بالتيمور يستحقون الأمن والسلامة فى مجتمعاتهم.
وتؤكد أعمال الشغب التى اندلعت فى المنطقة قسوة الشرطة الأمريكية فى معاملة السود. وكانت مدينة فيرجسون، التابعة لولاية ميسورى قد شهدت أيضاً بعضاً من أسوأ أعمال الشغب، العام الماضي، بعد إطلاق شرطى أبيض النار على رجل أسود أعزل.
ونقلت مجلة الإيكونوميست عن أحد سكان المدينة قوله: «يقتل شاب أسود تقريباً كل يوم، وليس من قبل رجال الشرطة فقط، ففشل الشرطة فى هذه المدينة لا يمّكن من تطبيق القانون حتى فى أفضل الأوقات ومقتل الشاب الأسود على يد الشرطة مجرد مصدر آخر من انعدام القانون».
وأوضح تقرير صدر مؤخراً، أن 45 % من السكان فى سن العمل عاطلون، بالإضافة إلى أن 33 % من طلاب المدارس الثانوية منقطعون عن الدراسة.
وأدت وفاة جراي، الشاب الأسود إلى إعادة اشتعال غضب عام من معاملة الشرطة للأمريكيين السود، والتى اندلعت العام الماضى بعد مقتل رجال سود عزل فى فيرغسون، وميزوري، ونيويورك سيتى وغيرها.
ويتلقى مكتب التحقيقات الفيدرالى أكثر من 400 جريمة قتل مبررة من قبل ضباط الشرطة الأمريكية كل عام.
وأدان الرئيس الأمريكى باراك أوباما، الشهر الماضى شرطة مدينة فيرجسون، لاتخاذها إجراءات «قمعية وتعسفية» ضد السكان السود، حيث كشف تقرير لوزارة العدل الأمريكية التحيز العنصرى من قبل الشرطة وموظفى الحكومة تجاه المواطنين السود.
وكانت لجنة الأمم المتحدة المعنية بالقضاء على جميع أشكال التمييز العنصري قد انتقدت فى أغسطس عام 2014 الولايات المتحدة؛ بسبب التمييز العنصرى والعرقى المستمر فى البلاد، وقالت اللجنة، إن واشنطن فشلت فى الوفاء بالتزامها بما تنص عليه اتفاقية القضاء على التمييز العنصري، كما أعربت عن قلقها حيال عدد من المشكلات منها عدم وجود مؤسسة قومية لحقوق الإنسان والتمييز والتفرقة فى السكن، والفصل العنصرى فى التعليم، وعدم المساواة فى حق الحصول على رعاية صحية، وعدم وجود خطة عمل قومية لمكافحة التمييز العنصري.
وعلى صعيد متصل، نشرت وكالة «سى إن إن» دراسة كلاسيكية عن العرق، أجراها علماء النفس من خلال تجربة استعانوا فيها بصورتين، الصورة الأولى عبارة عن اثنين من الرجال البيض يتقاتلان أحدهم أعزل والآخر يحمل سكيناً، والثانية عبارة عن رجل أبيض يحمل سكيناً ورجل آخر من أصول أفريقية أعزل.
وعندما طلبوا من الناس التعرف على الرجل الذى يحمل سكيناً فى الصورة الأولى، كانت إجابات الأغلبية صحيحة، ولكن عندما طلبوا منهم تحديد الشخص الذى يحمل سكيناً فى الصورة الثانية، كانت إجابات الأغلبية خاطئة، إذ قالوا إن الرجل الأسود هو الذى يحمل سكيناً، وتخلص هذه التجربة إلى ترسخ وتأصل الفكر العنصرى فى أمريكا.
حتى المهاجرون يكرهون السود
تختصر التفرقة العنصرية فى الولايات المتحدة عادة على تمييز الرجل الأبيض على الأسود، وربما يكون هذا الأمر مفهوماً، نظراً إلى أن المستعمرين البيض هم من نقلوا الأفارقة قسراً من أوطانهم، وجلبوهم إلى الولايات المتحدة ليكونوا عبيداً فى المزارع.
وبعد الحرب الأهلية وإنهاء العبودية، لا تزال الدولة تعانى التوترات العنصرية، بل وظهر نوع جديد من التفرقة، لا تنقله وسائل الإعلام الرئيسية وهى عنصرية ذوى الأصول الإسبانية ضد السود.
وفى ظل تدفق المهاجرين من أمريكا اللاتينية إلى الولايات المتحدة سواء قانونياً أو غير قانوني، ينمو كذلك التمييز ضد السود.
وفى عام 2011، اتُهمت عصابة أمريكية لاتينية كبيرة فى شرق لوس أنجلوس بمحاولة إزالة حى يقيم به سكان من السود بالقوة من وادى سان جابرييل، ولمدة 15 عاماً، شنت هذه العصابة حملة من الهجمات وإطلاق النار على الأسر السوداء التى تعيش فى القرية.
وللأسف تعد مثل هذه الحوادث شائعةً للغاية فى لوس أنجلوس ومدن أمريكية رئيسية أخرى، وتحدثت صحيفة «لوس أنجلوس تايمز» عن حادثة بعينها حدثت مع أسرة سوداء تتكون من أم وثلاثة مراهقين وطفل فى العاشرة انتقلوا لمنزل صغير فى كامبتون أثناء عطلة الكريسماس، وعندما جاء صديق لزيارتهم، جاء أربعة رجال فى سيارة رباعية الدفع وقالوا: «يا زنجى لا يسكن السود هذ الحي»، وهجموا عليه وضربوه بالأنابيب المعدنية فى أسلحتهم.
ويقول المحققون، إن هذه كانت بداية حملة العصابة اللاتينية لإجبار أسرة أفريقية أمريكية على مغادرة الحى.
والعديد من الوافدين من أمريكا اللاتينية يأتون من دول لم تجرم التفرقة العنصرية أو جرمتها مؤخراً. وتقول تانيا هيرنانديز، أستاذة قانون فى جامعة فوردهام، إنه فى الكثير من الدول فى المنطقة تمتلئ القوانين والممارسات بالتمييز العنصرى ضد 150 مليون منحدر من أصول أفريقية.
ويذكر تقرير لصحيفة «واشنطن تايمز»، أنه فى كوبا يمنع على أصحاب الوجوه السوداء وظائف معينة، خاصة المناصب الإدارية، كما لا يحصلون على رعاية صحية كافية، ويتم إقصاؤهم فى منازل فقيرة، أما فى كولومبيا، فقد نزح حوالى 288.000 أفريقى كولومبى منذ 2009 بسبب الاضطرابات الأهلية التى تجتاح البلاد.
ورغم أن دول مثل كولومبيا والبرازيل مررت فى 2011 و2012 على التوالى قوانين تجرم التفرقة العنصرية، يعلم الأمريكيون جيداً أن العنصرية لا تختفى بين ليلة وضحاها من قلوب وعقول الأفراد، وأن تفكيكها يتطلب أجيالاً من التحول.
وهذا التحول لم يحدث بعد فى الجالية الإسبانية، ولذا، وفى ضوء حقيقة التمييز العنصرى من اللاتينيين تجاه السود، ينبغى على الكونجرس أن يكون حذراً عند تناول قانون الهجرة.
التفرقة العنصرية تزدهر فى عصر أوباما
عندما وصل أول رئيس أسود إلى سدة الحكم فى الولايات المتحدة الأمريكية، اعتقد البعض أن معاناة الأمريكيين من أصول أفريقية من التمييز ضدهم على وشك أن تنتهى، لكن الواقع يظهر أن التفرقة العنصرية فى أمريكا تحت رئاسة باراك أوباما تعمقت خلال السنوات الست الماضية. ولم تكن وفاة شاب أسود رهن الاعتقال فى مدينة بالتيمور فى ولاية ميريلاند الأمريكية، وما نتج عن ذلك من أعمال شغب واحتجاجات سوى أحدث القضايا العنصرية فى عهد أوباما ولن تكون آخرها.
وقالت شبكة «إن بى سي» الأمريكية، إنه ما زال هناك تفاوت شاسع بين البيض والسود، الذين يعتادون على كسب مال أقل من البيض، والتخرج في الكليات بمعدلات أقل والأكثر تعرضاً للبطالة، ولا تزال السياسة أيضاً تشكل فجوة كبيرة بين الجانبين. فرغم أن الرئيس أوباما فاز بما يزيد على %90 من أصوات السود، وأقل من %40 من أصوات البيض فى عام 2012، يوجد عضوان أسودان فقط داخل مجلس الشيوخ البالغ عدد أعضائه مائة عضو، وهناك حاكم أسود واحد من أصل 50 حاكماً للولايات فى أمريكا.
وقال كارول دوهيتري، مدير مركز بيو للأبحاث، إن المسح الذى أجراه فى عام 2009، أوضح أن هناك تفاؤلاً متزايداً بين السود بشأن العلاقات العرقية، وكان هناك شعور بأن الأوضاع آخذة فى التحسن، ولكن هذا التفاؤل بدأ فى التلاشى بمرور الوقت. وأضاف دوهيترى، أن الأمريكيين الأفارقة ما زالوا مؤيدون لأوباما، ولكن الشعور بالتفاؤل الذى كان واضحاً بينهم فى بداية ولاية أوباما تراجع إن لم تكن تلاشى.
وأوضحت تقديرات المعهد الحضري، مركز أبحاث غير حزبي، أن الركود فاقم الفجوة التى كانت موجودة بالفعل فى الثروة بين البيض والسود، فما بين عامى 2004 و2010، خسر البيض %1 من ثرواتهم، فى حين فقد السود %23 من ثرواتهم، كما أن ثروة متوسط عدد الأسر البيض تبلغ ستة أضعاف ثروة متوسط عدد الأسر السود، كما يبلغ معدل الفقر بين السود %25 مقابل %11 بين البيض.
وتعد ديناميات العنصرية فى أمريكا أكثر تعقيداً عما كانت منذ جيل مضى، فالكثافة السكانية للأمريكيين الآسيويين والأمريكيين ثنائى العرق آخذة فى الازدياد، ويبلغ عدد البيض الآن %63 فقط من السكان القائمين فى البلاد مقارنة بـ%80 فى عام 1980.
ولم يدّع أوباما قط أنه سيعالج مشكلة التفرقة العنصرية فى أمريكا، وقد يكون من المستحيل أن نتخيل قيام أحد بمثل هذه المهمة، ولكنه اعترف بأن خطابه الذى ألقاه عام 2004 بشأن توحيد الناس من جميع الأعراق لم يصبح حقيقة خلال فترة ولايته.
وسعى أوباما أن يلعب دور شخصية الموحد حيال قضية العرق، وقد وبّخ بعض مؤيديه السود عندما سئل عن محنة شركات رجال الأعمال السود أثناء إدارته قائلا: «أنا لست رئيس الأمريكيين السود، أنا رئيس الولايات المتحدة الأمريكية»، وغالباً ما يقول أوباما إن عرقه له فوائد وله ثمن على حد سواء.
وحاول أوباما معالجة بعض التحديات التى يواجهها السود، فعلى سبيل المثال، حثت إدارته المدارس على التوقف عن طرد أو إيقاف التلاميذ الذين يسيئون التصرف نظراً لأن الفتيان الأفارقة الأمريكيين كانوا الأكثر عرضة للطرد من الفصول.
ورصدت صحيفة «ميرور أون لاين البريطانية» عدداً من أسباب عدم تحقيق انتخاب أوباما المزيد من المكاسب للسود، وجاء فى مقدمة تلك الأسباب عدم تصويت غالبية الأمريكيين لأوباما، فقد فاز أوباما بغالبية الأصوات بنسبة %51 ممن أدلوا بأصواتهم أى ما يعادل 66 مليون صوت، فى حين فاز رومينى بما يزيد على 61 مليون صوت، ولم يدل 114 مليوناً من البالغين بأصواتهم، ما يعنى أن 174 مليون أمريكى لم يصوتوا لأول رئيس أسود فى أمريكا.
ثانياً، أن غالبية المعارضات ضد أوباما كانت تركز على عرقه، فهناك حركة مثل حركة «بريثر» تنكر شرعيته كأمريكى.
ثالثاً، أن نجاح شخص وتجاوزه المحن والتحديات لا يعنى انتهاءها، فتولى مارجريت تاتشر، على سبيل المثال، لمنصب رئيس وزراء بريطانيا عام 1979، لم يقض على التفرقة الجنسية للأبد، فهناك فجوة فى الأجور بنسبة %35 بين الجنسين فى بريطانيا.








