يعلم ذوو العلاقة بسوق الأوراق المالية المصرية موقفى الرافض، منذ 2008، لمبدأ فرض الضرائب بأنواعها المختلفة على البورصة، ولاشك أن التداعيات السلبية التى تسبب فيها طرح موضوع الضرائب مرة أخرى العام الماضى 2014 وحتى صدور القانون ولائحته التنفيذية دليل قاطع على الأسباب التى طرحتها من قبل لعدم تطبيق الضرائب، إلا أن ما جرى فى الفترة الماضية حتى إعلان تأجيل العمل بالقانون لمدة عامين يستوجب الوقوف عنده وقراءة المشهد وتطور الأحداث.
فمما يثير دهشتى هو كيفية تعامل الحكومة مع الموقف منذ علم المتعاملين بالسوق بموضوع الضريبة حتى تأجيلها.
بدأ المشهد بطرح أو بمعنى أدق «تسريب» خبر إقدام الحكومة على فرض ضرائب بأشكال مختلفة على التعاملات فى البورصة المصرية، بعد حوار مجتمعى أجبرت الحكومة على الدخول فيه بعد التسريبات، اندهشت عندما بدأ عدد من الشخصيات المرموقة فى السوق إعلان دعمهم للمشروع الضريبى وركبوا الموجة السائدة فى ذلك الوقت، تحت ادعاء وجوب قيام البورصة بدورها فى تحقيق العدالة الاجتماعية المنشودة، وكالعادة يأتى ركوب الموج فى معظم الأحيان لخدمة أهداف شخصية أو مجموعة بعينها.
صدر القانون وتأثرت البورصة وقتياً ولكنها واصلت الارتفاع وأغلقت عام 2014 بأداء متميز إقليميا وعالمياً، وفى خلال هذه الفترة دأبت الشخصيات المؤيدة للضريبة على الظهور إعلامياً لتبرر موقفها من الضرائب رغم ضررها على المدى الأبعد، ودللوا على ذلك بأداء السوق واستيعابه لهذه الخطوة.
تأخرت الحكومة فى إصدار اللائحة التنفيذية، وبهذا التأخير أوجدت فرصة جوهرية وأرضاً خصبة للشائعات وتكتل مجموعات أخرى معارضة للضريبة، لم تظهر من قبل ولم يكن لها دور جوهرى فى سوق المال المصرية، لبدء حملة مضادة، وأراها أنا ممنهجة، للتأثير على السوق سلباً مستخدمين الاعلام منابراً لهم لهز الثقة فى البورصة والأداء الحكومي، وهاجموا بشراسة كل من أيد الضرائب فى البداية، وارتفعت اصواتهم بعد صدور اللائحة التنفيذية التى هى فى رأيى مع كامل احترامى لكل من ساهم فيها «فنكوش»، غير واضحة أو مفهومة على الإطلاق، وتحولت استراتيجيتهم فى هذه اللحظة إلى الهجوم الشخصى وتكسير العظام، مخترقين كل الحدود ومبادئ اللياقة والتحضر.
وإذ فجأة تحولوا من لم يكن لهم دور فى سوق المال إلى أبطال قوميين يدافعون عن حقوق المستثمرين الصغار والبورصة المصرية والاقتصاد بأكمله، فيما تعاملت الحكومة مع هذا الهجوم الشرس ببطء وردود فعل مسكنة عن طريق الدعوة لمقابلة أطراف السوق المختلفة دون اتخاذ قرارات حاسمة وجذرية وترك الباب موارباً، ما أدى إلى تأكد المعترضين من ارتباك المشهد الحكومى وضرورة استغلال الفرصة بالتصعيد.
يأتى تصريح بعقد اجتماع قريبا مع معالى رئيس الوزراء لمناقشة القانون وايجاد الحلول، ترتفع البورصة وسط أحجام تداولات هزيلة، ينتهى الاجتماع دون قرار حاسم بالاستمرار أو التأجيل أو الالغاء، فتنخفض البورصة مرة أخرى، ويتسع المجال مرة أخرى لكل من أراد أن يتحول إلى بطل قومى «بالصدفة».
وتأتى المفاجأة فى أهم مشاهد الفيلم الذى كان معروضا على جميع وسائل الاعلام، وهو مشهد (الماستر سين) بتحول مواقف المؤيدين وانضمامهم الى صفوف المعارضين، وانتقاضهم بحدة بالغة فى أوساط سوق المال وفى بعض الاحيان عبر الصحف، بل وبادروا بالهجوم على الحكومة وعلى شخص وزير المالية ليزداد عدد الأبطال القوميين، وينتهى المشهد بتأجيل تطبيق ضريبة الأرباح الرأسمالية على تداولات البورصة، ويرتفع مؤشر البورصة بصورة جنونية وليصبح اللون الخضر بمثابة وسام البطولة لكل من خاض هذا الصراع من البداية أو منتصف الطريق «المتحولون».
رغم أن تأجيل ضريبة الأرباح الرأسمالية تعد خبرا ايجابيا بالنسبة لي، وتأكيد على ما كنت اطرحه من اعتراضات على فكرة الضرائب، لكن ازعجنى المشهد برمته وأثار عندى عدداً من التساؤلات وعلامات الاستفهام، أولها لماذا تُقدم الحكومة على اصدار قانون تعلم جيداً من محاولاتها السابقة أنه بالغ الحساسية دون أى استعداد أو وضع استراتيجية متكاملة للتواصل مع كل المهتمين بهذا الموضوع لاحتواء الموقف عند صدور القانون، ليس فقط مع المتعاملين فى السوق ولكن مع المحاسبين الضريبيين والمراجعين الذين أكدوا عدم فهمهم بعض مواد اللائحة وصعوبة التطبيق.
لماذا تخطئ الحكومة ذات الخطأ الذى حدث عام 1998 بصدور قانون 5 لسنة 1998 وتأخر إصدار لائحته التنفيذية المبهمة ستة اشهر، مما أثر على السوق آنذاك تأثيراً بالغاً قبل أن يجرى الغاؤها على الفور.
للأسف، الأمر انتهى بتصدير صورة للمجتمع المصرى على أنه صراع بين مجموعة تريد الخير لمصر – وهذا قد يكون صحيحاً – ولكن ضد الحكومة، التى لا تبالى حال المواطن البسيط الذى يستثمر جزءاً من مدخراته فى البورصة لزيادة دخله ورفع مستواه المعيشي.
وسؤالى هنا ماذا ستفعل الحكومة فى الفترة المقبلة وهى امام خيارات صعبة وقرارات غير شعبية على الاطلاق واجب اتخاذها للنهوض بالاقتصاد المصرى والمرور به من تلك المرحلة الحرجة؟ هل سنرى المزيد من الأبطال القوميين الذين تصنعهم الحكومة بالصدفة؟ هل ستستوعب الحكومة الدرس مما جرى فى «ضريبة البورصة» للتعامل مع التحديات القادمة أم سيتم ارجاؤها أيضاً؟.
المشهد الثاني: انتهت «ضريبة البورصة» بعد كل هذه الاحداث بالتأجيل، وذهب معالى رئيس الوزراء لمبنى البورصة العريق مع وزير الاستثمار، دون وزير المالية، ليفتتح الجلسة بدق الجرس فى حضور رئيس البورصة وغياب رئيس هيئة الرقابة المالية.
ورغم اعتقادى أن غياب بعض مسئولين عن هذه الاحتفالية مسألة غير مقصودة وأن قرار الزيارة وافتتاح الجلسة جاء وليد اللحظة، إلا أنه بعث برسائل وأدى إلى تكهنات وشائعات غير ايجابية، فقد بدا مشهد افتتاح جلسة التداول للعامة بأن هناك انقساماً واضحاً داخل الحكومة بشأن قرار التأجيل، وبالتحديد مع وزير المالية.
وأخيراً، أود أن أؤكد لمعالى رئيس الوزراء أننى على يقين تام بادراك سيادته الكامل بالمشاكل المتعلقة بالاستثمار فى مصر، وأنه ليس بتأجيل الضرائب وافتتاح جلسة التداول فقط تنتعش البورصة المصرية وبالتالى القطاع الاستثمارى بأكمله، فقد شهد هذا المبنى العريق زيارات من مسئولين ورؤساء وزراء، مثل زيارة د. حسن عباس زكي، وزير الاقتصاد والمالية الاسبق فى عهد الرئيس جمال عبدالناصر، مؤكدا للسوق عدم المساس بالقطاع الخاص ورؤوس الأموال الوطنية، لتبدأ بعدها عملية التأميم وانكماش سوق المال المصرية والتى كانت خامس اكبر سوق على مستوى العالم، كما زارها من قبل أيضا هشام قنديل رئيس الوزراء فى «حكومة الاخوان»، وبالطبع لا داع للكلام عن هذه الفترة وتداعيتها الآن.
لذلك يبقى السؤال الأهم.. فماذا بعد انتهاء انتشاء مؤشرات البورصة بالتأجيل؟، وهل ستبقى العديد من المشكلات تعرقل مسيرة الاستثمار والنمو، ومنها على سبيل المثال لا الحصر طول الأجل غير المبرر للموافقة على زيادة رؤوس اموال الشركات لتمويل أنشطتها الانتاجية، وتصاعد تكاليف التعامل مع سوق الأوراق المالية المصرية خاصة بعد عام 2011، فضلا عن القيود على سوق الصرف التى تؤثر سلبا على تدوير عجلة الانتاج، وبالطبع مع كل التقدير لمحدودية الموارد بالعملة الاجنبية وغيرها.
كما يجب أن نتساءل عن طبيعة وفحوى الرسالة الواجب الحكومة ارسالها للمجتمع الدولي، من الدول المانحة والمؤسسات الدولية، لكى لا يعتقد أن تأجيل ضريبة البورصة ليس عدولا عن مسيرة الاصلاح الاقتصادى، التى بدأتها الحكومة بعزم واقتدار وأثنت عليها المؤسسات الدولية وعززت تقييمها السيادى.
وأخيراً ماذا عن قانون تأجيل الضريبة، هل سيتأخر أيضا لتنمحى ايجابيات اتخاذ هذا القرار الجرئ من قبل الحكومة، وماذا عن الذين احتفلوا بنصرهم فى الأوساط المالية والاعلامية وكتبت أسماؤهم فى سجل الأبطال القوميين، هل سينتقل هجومهم الى معترك آخر وكيف ستتعامل الحكومة معهم فى خطواتها القادمة لاستكمال مسيرة الاصلاح أم ستترك المجال، عن دون قصد، للمتربصين او المتآمرين أو محترفى ركوب الأمواج ليحرفوا المشهد وربما تغيير المسار الاصلاحى.
المقال بقلم: ماجد شوقي خبير اسواق المال








