بقلم: دكتور/ طارق سعد الدين شل
مدير العلاقات الخارجية بالمصرف المتحد
عندما يدور الحديث عن العقوبات الاقتصادية لا يمكن بأى حال إغفال الدور الذى يقوم به مكتب مراقبة الأصول الأجنبية التابع لوزارة الخزانة الأمريكية (الأوفاك – Office of Foreign Assets Control)، هذا المكتب الذى تم إنشاؤه بقرار من الرئيس الأمريكى هارى ترومان عام 1950 بعد إعلانه حالة الطوارئ الوطنية، وذلك فى أعقاب الحرب الصينية الكورية وبديلاً عن مكتب مراقبة الأموال الخارجية، والذى أعلنت إدارة الخزانة الأمريكية إيقاف العمل به فى ذلك التاريخ، وأسند لمكتب مراقبة الأصول الأجنبية تجميد الأصول الصينية والكورية والخاضعة لسلطة الولايات المتحدة الأمريكية.
وينصب دور المكتب فى إدارة البرامج العقابية الأمريكية، والتى تفرضها على جهات معينة سواء كانت دولاً أو مؤسسات أو أفراداً كجزء من منظومة مالية هدفها دعم تحقيق أهداف السياسة الخارجية الأمريكية والأمن القومى الأمريكى ضد دول ومنظمات وجهات وحتى أفراد أجانب معادين للسياسة الأمريكية ويعملون ضد مصالحها، كما تفرض العقوبات بداعى مواجهة الجهات راعية الإرهاب والمخدرات أو لأسباب إنسانية أو لأسباب تتعلق بحقوق الإنسان أو تعزيزاً للديمقراطية أو محاربة النظم الشمولية.
إذاً فالعقوبات المالية والاقتصادية هى إحدى وسائل الحرب الحديثة، لا يستخدم فيها البارود، ولكن تعكير صفو الحياة، وتضييق الخناق على نظم الحكم أو الأفراد أو المؤسسات بما من شأنه تحقيق الأهداف المرجوة من خلال رد تلك الجهات للطريق الذى يتوافق مع سياسات المجتمع الدولى أو بالأصح سياسات الولايات المتحدة الأمريكية والتوقف عن اتباع سياسات سيئة السمعة من وجهة النظر الأمريكية، كما يصدر المكتب عقوباته بعد توصيات تصدرها مكاتب الهيئات الدولية كالأمم المتحدة وغيرها، ويتم تفعيل العقوبات من خلال وضع ضوابط على المعاملات تتدرج ما بين تجميد الأصول المالية ومصادرتها، وكذلك القيود التجارية على الدول (عقوبة شاملة) أو المؤسسات والبنوك والأفراد (عقوبة انتقائية)، وفى المقابل نجد أن أنظمة الحكم والأفراد والمؤسسات تلجأ لشركات متخصصة لإخفاء أموالهم، وتضليل من يحاول الوصول إلى معلومات عنها بإخفائها فى حسابات سرية فى بعض الدول التى تتيح تشريعاتها ذلك.
وفى الوقت الراهن يدير المكتب برامج عقوبات ضد العديد من الدول والمؤسسات التى تعتبرها الولايات المتحدة الأمريكية خارجة على القوانين والقواعد الدولية بممارساتها المخترقة للتشريعات الدولية بدعمها للإرهاب وغسل الأموال وتجارة المخدرات ودعمها لجماعات خارجة على القواعد والأعراف الدولية، ومن بين تلك الدول كوبا والسودان وإيران وسوريا وغيرها، وآخر تلك العقوبات ما تم توقيعه على روسيا بعد مشكلة شبه جزيرة القرم، وهو ما كان يرفضه المجتمع الدولى وأمريكا.
لقد أبرز عدد من الدراسات كدراسة جارى كلايدهوفيارو ودراسة كيف مورجان وغيرهما أن سياسة الحظر الاقتصادى لم تحقق النجاح بنسبة كبيرة فى تحقيق الأهداف المرجوة منها، حيث لم تتعد نسبة نجاحها (طبقاً لتلك الدراسات) %39.5 فى حالة العقوبة الفردية، و%54.8 فى حالة العقوبة الجماعية، وفى كل الأحوال لم تفلح فى تغيير أنظمة الدول بينما نجحت فى حالات خاصة فى تحقيق الديمقراطية، ولعل أبرزها ما حدث فى جنوب أفريقيا والتى كانت تتبع سياسات الفصل العنصرى، حيث تحولت لنظام ديمقراطى، وألغت سياسات التمييز بعد فترة طويلة من العقوبات الاقتصادية، أما عن مجمل العقوبات المالية الموقعة، فنجد أن من ثلث إلى نصف العقوبات موقعة على البنوك، وفى مصر نجد أن «الأوفاك» تضم فى قوائمها 33 اسماً لمؤسسات وأفراد قبل أن تضيف لقوائمها أنصار بيت المقدس.
إن صدور قرار التجميد من تبعاته قيام البنوك القائمة عليها بتحويلها لحسابات تعرف بـEscrow Accounts حيث تكون الأرصدة من الناحية الورقية مملوكة لأصحابها الأصليين، وتحتسب عنها فائدة بسيطة، بينما أصل المبلغ وفوائده لا يتم استثماره لصالح صاحب الحساب (وبالتالى فرأس المال يتآكل بمرور الزمن)، وإنما تستفيد الجهة التى تحتفظ بتلك الحسابات فيدخل رأس المال فى حسابات أصولها وإجمالى إقراضها واستثماراتها مما يزيد من أرباحها ويدعم اقتصاد بلادها، وبالتالى فالتجميد يفيد تلك البنوك ودولها فهو يزيد من ربحية تلك البنوك ومعدل نمو اقتصادات بلادها من خلال استفادتها من الأموال محل التجميد فى الإقراض والاستثمار، وبالتالى فى مشروعات جديدة أو قائمة بما يزيد التشغيل والإنتاجية ويعزز معدلات النمو.
وعلى الجانب الآخر، لن تستفيد شعوب الجهات الواقعة تحت طائلة العقوبات الاقتصادية والمالية من هذا التجميد، فهى ثروات مهدرة، ولعل ما حدث مع العراق هو خير دليل على ذلك، ففى أعقاب فرض العقوبات على النظام العراقى إلى سقوط النظام وخلال تلك الفترة لم يتم استثمار أموال العراق لصالح الشعب العراقى أو يحقق الشعب أي ميزة من ذلك، ولو بالاسترداد حتى إن الأصول العراقية هلكت دون الاستخدام، ودليل ذلك ما لحق بالأصول العراقية والناجم عن قيام الأمم المتحدة بتجميد ممتلكات العراق وأموال الشركات العراقية أو التى تسهم بها شركات عراقية، فكان من نتائجه على سبيل المثال هلاك الطائرات العراقية الخمس الموجودة بمطار عمان الدولى، والتى تم تجميدها دون استخدام، ففقدت قيمتها بسبب الدمار الذى لحق بها وعدم إجراء الصيانة اللازمة لها.








