إعداد الورثة للحفاظ على الثروة يبدأ من سن الخامسة
إدارة أموال العائلات وتقديم الاستشارات حرفة تعود للقرن السادس الميلادى
200 ألف دولار الحد الأدنى لرسوم مكاتب خدمات الأسر الثرية
%5 من الأسر الأمريكية تتحكم فى 63% من ثروة الولايات المتحدة
%70 من الورثة فشلوا فى تمرير الثروة للجيل الثالث
%3 من العائلات الغنية يفقدون أموالهم بسبب قضايا قانونية وضريبية
فى تجمع استثنائى لمراهقين أثرياء يسأل المعلم عمن يستثمر حالياً فى السوق، فارتفعت معظم الأيادى، وبينما يوضح لهم مخططاً مالياً لفوائد الاستثمار، قاطعه ليام ويتفيلد أحد الطلاب قائلاً: “ماذا تقترح للاستثمار فى الوقت الراهن؟”، فرد عليه المتحدث من شركة استثمار محلية، بأنه يقترح خليطاً من الأسهم والسندات بنسبة 60% و40% على التوالى فبدا على ويتفيلد خيبة الأمل لأنه يمتلك أسهماً بالفعل فى “أبل” و”فيسبوك” و”ستاربكس”.
وقال: «لقد كنت أبحث عن نصيحة حقيقية عن الاستثمار فى الأسهم».
حدث هذا الموقف فى صباح يوم من أيام السبت فى مارس الماضى بحضور 24 مراهقاً فى غرفة اجتماعات شديدة النظافة، يتلقون دروساً فى إدارة الأموال رتب لها آبائهم الأثرياء.
ويُلقى هذه الدروس جون جاج، خريج حديث من جامعة ستانفورد، ويعمل فى شركة إدارة الاستثمارات التى تستضيف أبناء العملاء الحاليين والمحتملين، ويقول تقرير لوكالة أنباء «بلومبيرج»: إننا نعيش فى عصر ذهبى تتحكم فيه 5% من الأسر الأمريكية فى 63% من ثروة الدولة، وتتناقض عقود من الركود فى نمو دخل الطبقة المتوسطة مع تضخم ثروات الأسر مثل آل والتون أصحاب سلسلة متاجر «وال مارت»، الذين يعتبرُون أغنى من 40% من أفقر الأسر الأمريكية مجتمعين.
ويقول مركز كلية بوسطن المعنى بالثروة والأعمال الخيرية، إنه بحلول 2061 ستبلغ الأموال المورثة حوالى 59 تريليون دولار، فيما يعد أكبر تحويل للثروة عبر الأجيال فى التاريخ الأمريكى.
هذا الرقم لم يجعل الأغنياء أقل قلقاً على الأقل فيما يتعلق بالحفاظ على ثروتهم، وتضاعف عدد المكاتب الاستشارية لفاحشى الثراء منذ عام 1998، ولم تقتصر أدوارها على إدارة المحافظ والتخطيط الضريبى، بل امتدت لأبعد من ذلك بكثير إلى داخل حياة عملائها من الأسر، بهدف منع المشاحنات بين الورثة وتجنب العلامات المبكرة على تبديد الثروة.
بعض هذه المكاتب يقوم بتنظيم فصول للتوجيه مثل المثال السابق، وبعضها ينظم اجتماعات للأسرة، والبعض الآخر يستخدم الألعاب والبطاقات الصوتية التعليمية لحفر المفاهيم المالية فى أطفال لا تتجاوز أعمارهم الخامسة.
إحدى هذه الشركات، «أسينت» لإدارة رؤوس الأموال الخاصة، توظف مؤرخاً وطبيبين نفسيين لمساعدة العملاء على كيفية استغلال ثرواتهم وتحديد الآليات داخل الأسرة، ويقول مايكل كول، رئيس الشركة: «نحن لا نريد فقط مساعدة عملائنا على إدارة ثرواتهم، بل نريد مساعدتهم على إدارة آثار الثروة».
ويقول كول، إنه فى كل الثقافات يوجد قول مأثور يشير إلى أن الثروة لا تمتد على الأغلب للجيل الثالث، فالجيل الأول يعمل بكد لخلق الثروة، والجيل الثانى يذهب للجامعة ويبتكر أفكاراً جديدة، أما الجيل الثالث فيتزحلق على الجليد ويأخذ دروس تقوية.
ويقول المستشار روى ويليامز، إنه تعرف مؤخراً على ممثل للأسر الآسيوية الغنية فى شمال غرب المحيط الهادى، وتمتلك كل أسرة أكثر من 200 مليون دولار، وأخبره هذا الممثل أن هذه الأسر تقول: «الأولاد يستهلكون ثرواتنا، ويشترون سيارات لامبورجينى وبينتلى، ولا نعرف كيف نغير هذا النمط».
ويعد ويليامز أحد مؤلفى كتاب «إعداد الورثة» الذى تتبع 3250 أسرة من عام 1975 إلى 1995، ووجدوا أن 70% من الورثة فشلوا فى تمرير ثرواتهم إلى الجيل التالى، وعرف الكتاب هذا الفشل على أنه «الفقدان اللا إرادى للسيطرة على الأصول».
كما وجدوا أن السبب الرئيسى فى ضياع الثروة كان إما انهيار التواصل بين أفراد العائلة أو عدم استعداد الورثة، بينما 3% فقط من الأسر فقدوا ثروتهم نتيجة قضايا مثل الضرائب أو التحديات القانونية.
ورغم أن بيانات الكتاب أصبحت قديمة وتسبق بعقود التخفيضات المستحدثة على ضرائب التوريث، فإن 70% من نسبة الفشل لاتزال تستخدم من قبل المستشارين كسبب لتسويق خدماتهم.
وقالت شيلا ستينتون، مدير التثقيف العائلى فى مكاتب «جينسبرينج فاميلى» «من واقع خبرتنا، لا يوجد مبلغ من المال لا يمكن فقدانه»، وتبلغ قيمة كل عميل من عملاء هذه الشركة 50 مليون دولار على الأقل، وأسست مركز التعليم والابتكار فى 2006 لتنظيم ورش عمل ودروس تدريبية.
وأحد ابتكارات هذه الشركة لعبة لوحية تلعبها ستينتون مع عملائها وأولادهم فى حفلات شاى أو غداء اعتمادًا على أعمارهم، ويحصل اللاعبون على أموال فئات مليون دولار و5 ملايين دولار و10 ملايين دولار، ويتنقلون على اللوحة بين خنادق وسلالم تمثل عقبات يتم خسارة أو مكافأة اللاعب فيها حسب استجابته.
وللأطفال الأصغر سنًا، توفر ستينتون لعبة تسمى «الأمور المالية»، والتى تستخدم فيها بطاقات ضوئية تظهر صور بضائع، وتسأل الأطفال إذا كان هذا البند فى الصورة «حاجة» أم «رغبة» يستطيعون العيش بدونها.
وتقول ستينتون، إنه فى إحدى المرات أظهرت بطاقة تحتوى صورة حقيبة يدوية لـ4 فتيات فى سن التاسعة حتى الحادية عشر، وقالت فتاة منهم إنها «رغبة»، فى حين قالت فتاة أخرى «كلا، حقائب ماركة تورى بيرتش هى ضرورة حياتية».
واختارت شركة «أسينت» لإدارة رؤوس الأموال الخاصة، وهى أحد فروع مؤسسة «بانكورب» الأمريكية للخدمات المالية، مظهرًا شبابيًا لمكاتبها فى «سينسيناتى» و«دينفر» و«مينابولى» و«سان فرانسيسكو» و«سياتل»، فالديكور بأكمله باللون الأبيض، مستوحى من متاجر «أبل» وكبائن شركة الطيران الأمريكية «فيرجين أمريكا».
وفى مكتب الشركة فى سان فرانسيسكو، فى جناح بالطابق 21 يطل على الخليج، توجد غرفة يستطيع الأطفال الاسترخاء فيها أثناء تحدث آبائهم مع الموظفين، وتحتوى الغرفة على أريكة وكرسى كيس القماش الأبيض و«إكس بوكس».
والحرفة التى تقوم بها «أسينت» تعود للقرن السادس الميلادى منذ الحكم الملكى لآل ستيوارت، وفى القرن التاسع عشر كان يقوم المستشارون بإدارة القطع الفنية والمقتنيات ومنازل جى بى مورجان وغيرها من عمالقة تلك الحقبة، وأفاد تقرير «إرنست أند يونج» أنه يوجد الآن نحو 3 آلاف شركة مثل «أسينت»، أُسس نصفها على الأقل خلال الخمسة عشر عاماً الأخيرة.
ولا تكون المساعدة الجيدة مقابل ثمناً بخساً، فالحد الأدنى من رسوم شركة «أسينت» 200 ألف دولار سنويًا، ويقول كول، رئيس شركة «أسينت»، إن بعض العملاء لا يوكلون الشركة بإدارة أموالهم بشكل مباشر، وإنما يستخدمون فقط خدماتها الاستشارية الأخرى.
ويقدم مركز «ويلث إيمباكت» التابع لشركة «أسينت»، مديرًا مختصًا بتاريخ العائلة ومدربين على «آليات الثروة» متخصصين فى سيكولوجية التنظيم، يهتمون بجوانب انهيار الثقة والتواصل بين أفراد العائلة ومشكلات التعليم، فى كتاب «إعداد الورثة».
ويختبئ الشر وراء الثراء، لدرجة أن بعض الباحثين يرون أن الثراء يخلق مخاطر أكبر للاكتئاب والقلق وتعاطى المخدرات، وأفادت دراسة أجريت عام 1999 لمدرسة ثانوية للبنات الأثرياء فى ضاحية فى «نورث إيستيرن»، أن واحدة من بين 5 بنات يعانون مستويات خطيرة من الاكتئاب، وهو ما يعد ثلاثة أضعاف متوسط المعدل القومى.
بينما أوضحت دراسة أجرتها سونيا لوثار، أستاذ فخرى فى جامعة كولومبيا، أن الأولاد الأثرياء أكثر قلقاً عن المعدل المتوسط، وتوصل بحث أُجرى حديثاً عبر البلاد إلى نتائج مماثلة، ويمر الأطفال الأغنياء بمراحل نفسية معقدة بما فى ذلك الشعور بالذنب حيال الثورة الموروثة والتوتر الناجم عن ضغوط الارتقاء بإرث العائلة.
وتحاول شركة «أسينت» تجنب المشاكل من خلال حث العائلات على التفكير فى مهامهم وأغراضهم، كما تفعل الشركات إلى حد كبير، وتقول إيمى زيندر، كبير مدربى آليات الثروة، إنها طالبت من 3 أخوة تتراوح أعمارهم 15، و19، و21 عامًا، تكوين تمثيل مرئى للقيم الأساسية للعائلة.
وعاد الأولاد برسم لسيارة جيب، ويتوافق كل جزء مع قيمة مختلفة، وتمثل الإشارات الاتصالات، ولوح الجليد التوازن بين الحياة والعمل، ويمثل الزجاج الأمامى للسيارة النزاهة، والمحرك يعكس الولاء، وعجلة القيادة تمثل الدينامية، والمصابيح الأمامية الاحترام، والإطارات الضخمة الطموح، وعدة الرفع النمو، وتقول زيندر، إن الأب تأثر وقررت العائلة أنها ستبنى هذه السيارة الجيب.
وتدير شركة «كورنرستون» ما يزيد على 3 مليارات دولار، ودرّست أولى حصصها لثلاث مجموعات من الأشقاء بعد أن طالب أحد العملاء بتدريس الأسس المالية لأبنائه، وذهبت سو بيترسون، العضو المنتدب للشركة، إلى مكتبة «بانيس آند نوبل» ووجدت كتباً مالية للأطفال الصغار، وطورت الشركة منهجها، ووسعته فى نهاية المطاف إلى 12 ساعة من الدروس عن الميزانية والبطاقات الائتمانية والاستثمارات، ويمضى الآباء وقت حصصهم الخاصة يقارنون الملاحظات.
وسمعت ديان، والدة ليام ويتفيلد عن هذه الدروس من خلال صديق زوجها، بيل، مستثمر عقارى، وعائلة ويتفيلد لديها ثلاثة أبناء، ليام وستانلى، يبلغون 16 عاماً، وتراميل، 8 أعوام، وكانوا يفكرون أنه حان الوقت لأبنائهم الأكبر سنًا للتحكم أكثر فى أموالهم.
وتقول ديان، ليام قد يدفع لجميع أصدقائه لمشاهدة فيلم، فى حين قد ينفق ستانلى النقود الخاصة بغذائه على ألعاب الفيديو، وسجلت ديان لأبنائها فى الدورة التدريبية التى تنظمها شركة «كورنرستون»، وبالنسبة لـ”ليام” الذى التحق بكليته الصيف الحالى، كانت الدورة التدريبية جزءًا من إعداده للاستقلال بحياته، وطلب من والديه مؤخرًا كتابة ميزانيته للصيف، وفى بعض الأيام يتعرض لمواقف محرجة مع أصدقائه، إذ يقول ليام: «لا أحمل النقدية لأننى لا أحبها عندما يقول لى شخص ما إنك تستطيع شراء ذلك الشئ فادفع ثمنه».
ويقول إيجال سكاوت الذى يمارس رياضة السباحة وكرة القدم ويشارك فى بطولات تابعة لمقاطعته إنه يريد أن يصبح جراح عظام، ويخطط لأخذ دورات تدريبية فى الدراسات الطبية فى كلية «ويست مونت» فى سانتا باربرا بكاليفورنيا، ولاحظ سكاوت أن العديد من أبناء جيله يجدون أنه من السهل تحقيق نجاح كبير بأقل مجهود، قائلاً «لدينا كل شئ فى متناول أيدينا، وهو أمر سخيف حقاً».
