لسنوات عديدة، سعى القادة الصينيون «لإعادة التوازن» للاقتصاد، واستبدال نموذج النمو المبنى على الاستثمار والصادرات، بآخر قائم على الخدمات والاستهلاك المحلى.
ويعد هذا التحول ضرورة بالنسبة للصين.. ولكن لسوء الحظ، يبدو النمو القائم على الاستهلاك بعيد المنال.
وبالتأكيد.. فقد ازدادت حصة الاستهلاك فى الناتج المحلى الإجمالى بقدر ضئيل على مدى السنوات القليلة الماضية، ولكن هذا يعكس فى الأساس ضعف الطلب على الاستثمار، وليس نموا قويا فى الاستهلاك.
وفى الواقع، بقى تجميع الثروات هدفا أساسيا للأسر الصينية.
وبالنظر إلى الهيكل الاقتصادى الصيني، وسوق المال غير المتقدم، وضعف نظام الضمان الاجتماعي، ستستمر المستويات المرتفعة للمدخرات الاحترازية فى المستقبل القريب.
ويعد احد العوامل الرئيسية التى تعوق الاستهلاك، دافع العمالة الصينية الأكبر سنا فى الإدخار من أجل التقاعد. ففى الماضى، كانت تعنى التقاليد الكونفوشيوسية لطاعة الوالدين، أن الأطفال يدعمون أبائهم فى الكبر. ولكن بعد ثلاث سنوات من سياسة الطفل الواحد، من غير المعقول ان يتوقع المتقاعدون نفس القدر من الدعم.
كما أن الصين تفتقر إلى نظام معاشات قوى يعوض عدم قدرة الأبناء على إعالة الآباء.
وحاليا، يستمد المتقاعدون من الحضر نصف دخلهم، فى المتوسط، من الدعم الأسري، وتعلم العمالة فى منتصف العمر أن عليها توقع نسبة أقل من الدعم عند التقاعد.
كما أن كبار السن يزيدون من مدخراتهم، وهذا يرجع جزئيا إلى زيادة متوسط العمر المتوقع، وارتفاع تكاليف الرعاية الطبية، وهوا مايتناقض بحدة مع معدلات الادخار المتراجعة بشدة بين كبار السن فى الولايات المتحدة.
وهناك سبب آخر يرجح عدم زيادة الأسر الصينية للإنفاق، وهو أن حصة دخلهم من الناتج المحلى الإجمالى تتراجع، من حوالى 70% فى 1990، إلى حوالى 60% فى 2010 (بينما تبقى النسبة ثابتة فى الدول المتقدمة عند 80%).
والمشكلة هنا لها جانبان: الأول، ان نموذج النمو الصينى مشوه، إذ إنه يركز على الاستثمار وليس نمو الوظائف، ويعتمد جزئيا على قمع الأجور لدعم الإنتاج والصادرات. والجانب الثانى هو القمع المالى، مما جعل الفائدة على مدخرات الأسر الصينية صفرية.
وقد يكون رأس المال الرخيص، وتكاليف العمالة المنخفضة مفيدان لنمو الإنتاج. ولكن جانب من الأسر مخنوق، وبالتالي، فإن الاختلال الرئيسى الذى تعانى منه الصين ليس بين الاستهلاك والاستثمار، وإنما بين الأسر من ناحية، والحكومة والشركات من ناحية أخرى. ولهذا السبب لم تنجح سياسات التحفيز التقليدية، وليس لضعف المجهودات المبذولة.
وفى السنوات القليلة الماضية، جمعت الحكومة الصينية بين السياسات المالية التوسعية، والسياسة النقدية المخففة، وهذا من شأنه فى العادة أن يحث المستهلكين على الاستهلاك أكثر، توقعا لمعدلات تضخم أعلى فى المستقبل.
ولكن هذا النهج لم يفلح فى الصين.. بل قد يثبت أن له نتائج عكسية، فى ظل اتجاه الأسر – المتشوقة للحفاظ على قوتها الشرائية – نحو الإدخار أكثر، والسعى وراء العائدات الأعلى.
ومن الواضح أن الحكومة الصينية كانت تأمل فى أن الآثار الإيجابية للثروة من ارتفاع أسعار الأصول ستحفز الاستهلاك.. وبدلا من ذلك، تسبب التشجيع الحكومى على الابتكار المالى فى ارتفاع سوق الأسهم بحدة، وبقدر أكبر بكثير مما تستدعيه الأسس الاقتصادية.
وهذا لا يعنى مطلقا ان سعى الصين لاستهلاك محلى أكبر محكوم عليه بالفشل.. بل إن شباب اليوم، عكس العمالة فى منتصف العمر اليوم التى تلقت صدمات الثورة الثقافية وترسخت لديهم صفات الحذر والنفعية، أكثر تفاؤلا بشأن المستقبل.
كما أنهم يعرفون أنه من المعقول أن يتوقعوا أجورا أعلى من التى حصل عليها آباؤهم وأجدادهم.
ولكن هذا التحول سيتطلب طريقا طويلا.. وفى الوقت الحالي، ينبغى ان تسعى الصين إلى تطبيق مجموعة متنوعة من سياسات تعزيز الاستهلاك، بدءا من تسهيل القيود على قروض الأسر.
وفى السنوات الأخيرة، وصل دين الأسر الصينية إلى 125 من الناتج المحلى الإجمالي، مقارنة بـ95% فى الولايات المتحدة.
وعادلت قروض الرهن العقارى 16% من الناتج المحلى فى الصين، مقارنة ب 120% فى أمريكا. كما أن 5% فقط من الأشخاص لديهم قروض عقارية، و8.2% لديهم كروت ائتمان. اما الأرقام فى امريكا فتصل إلى 33.4%، و61% على التوالي.
ومن الواضح أن الأسر الصينية أمامها مساحة كبيرة لتقترض أكثر. وحال تخفيف القيود على الائتمان الأسري، ستمكن الحكومة الصينية الشباب من تمويل تعليمهم وشراء البضائع المعمرة، مثل الشباب الأمريكى.
وفيما يتعلق بإعادة التوازن إلى الاقتصاد، ينبغى على الصين أن تتحلى بمزيد من الصبر، وان تدرك ان الجيل الحالى تربى على الادخار لدرجة لا تسمح له بتحقيق نوع من الارتفاع فى الاستهلاك المطلوب.
وهناك خطوات يمكن أن يتخذها الساسة لتسريع العملية، ولكن حتى يكبر الجيل القادم، فإن التقدم الحقيقى عليه أن ينتظر.
بقلم/كيو جين







