هذه قصة غير واقعية ولكنها عميقة المغزى. قرأتها منذ زمن فى كتاب أو مقال يجمع بين الاقتصاد والأخلاق، ولكنى أعود إلى تذكرها بين الحين والآخر، وإلى التفكير فيها من جديد، المرة بعد الأخرى، قصة مؤثرة ولكنها أيضاً محيرة، والحيرة التى تثيرها ليست بعيدة الصلة بالحيرة التى يشعر بها الكثيرون من المصريين الآن إزاء انتخابات الإعادة لاختيار رئيس الجمهورية.
القصة باختصار أن دولة من دول العالم الثالث كان يحكمها فى بعض الأزمنة حاكم دكتاتور بالغ القسورة، لا يسمح لأى شخص بأن ينبس ببنت شفة فى الاعتراض على تصرف من تصرفاته، ولا يتورع عن اعتقال وتعذيب معارضيه، بل ولا عن قتلهم دون محاكمة، أو حتى الإعلان عما فعله بهم.
تصادف أن زار هذه الدولة رجل من دولة يتمتع أهلها بنظام أكثر رحمة (أو أكثر ديمقراطية كما يقال فى هذه الأيام)، وفى أثناء سيره فى شوارع تلك الدولة المخيفة، شاهد ضابطاً يحمل مسدساً وأمامه صف من عشرة رجال مقيدى الأيدى والأرجل بالسلاسل. بسؤاله الضابط أجابه بأنهم من رجال المعارضة الذين صدر أمر بإعدامهم، وأنه على وشك تنفيذ هذا الأمر فيهم واحداً بعد الآخر. دخل الزائر مع الضابط فى مناقشة فى محاولة لإقناعه ببشاعة ما هو مقدم على عمله، فأظهر الضابط استهانة بكلامه، وأخيراً فاجأه الضابط بالاقتراح التالى: «إذا كنت حريصاً فعلاً على حياتهم فإن بإمكانك إنقاذ تسعة منهم بشرط أن تقوم أنت بإطلاق الرصاص على واحد منهم». هنا فقط سوف يطلق الضابط سراح الآخرين. وأضاف الضابط قوله للزائر إن عليه أن يصرف النظر عن أى خاطر قد يخطر بباله من أن من الممكن إنقاذ العشرة بأى وسيلة أو حيلة، كان الخيار الوحيد المتاح إذن أمام الزائر هو الآتى: أن يفقد عشرة من الرجال الأبرياء حياتهم ظلماً، أو أن يقوم هو بقتل واحد منهم ويسترد الباقون حياتهم.
لم يكن اختيارا سهلا على الإطلاق. من زاوية معينة، يبدو أن الأمر ليس إلا اختيارا بين قتل عشرة أو تسعة ظلما، فيبدو أن قتل تسعة «أفضل» أو «أقل سوءا»، ولكن المشكلة فى أن لهذا «التخفيض» فى حجم الجريمة ثمناً رهيباً، وهو أن يقوم المرء بنفسه بقتل رجل يعرف أنه برىء، بعبارة أخرى: لو كانت المشكلة، مما يمكن حله بتطبيق ما يسمى «مبدأ المنفعة»، أو بما يسمى فى الكتابات الاقتصادية الحديثة «حساب النفقات والمنافع»، أى بالمقارنة بين حجم المنافع والخسائر المتوقعة، والقيام بالعمل إذا زادت المنافع عن الخسائر، لو كانت هذه فقط هى المشكلة لكان الحل سهلاً وواضحاً، ولكان على الزائر قبول ما يعرضه عليه الضابط، ولكن المشكلة أعقد من ذلك، إذ أنه فى مقابل الحصول على هذه النتيجة «السارة»، «وهى إنقاذ حياة تسعة أشخاص أبرياء»، لا بد من أن يقوم الزائر بنفسه بارتكاب جريمة لا شك فيها، وهى القيام بقتل رجل برىء.
إن من الممكن أن تعتبر أن القصة قد انتهت على هذا النحو، إذ لا نحتاج فى الحقيقة إلى معرفة ما وقع عليه اختيار الرجل، وعلى كل منا أن يختار الحل الذى يرضى ضميره، وهذا هو بالضبط حالنا مع الاختيار البائس الذى يُعرض علينا فى جولة الإعادة فى انتخابات رئيس الجمهورية، حيث نُخيَّر بين أمرين يعتبر الكثيرون منا (بل وربما معظمنا) أن كليها سيئ، ويطلب منا، بالرغم من ذلك، أن نقوم بعمل إيجابى «وهو التصويت» لإنجاح أحدهما.
لقد دهشت بشدة عندما قال لى صديق عزيز، أعرف أنه لا يحب أن يرى أحمد شفيق رئيساً لجمهورية مصر، ولا أن يرى ممثلاً لجماعة الإخوان المسلمين فى هذا المنصب، قال لى إنه سيذهب للانتخابات، ويأخذ معه زوجته وابنه وزوجة ابنه والطباخ والخدم، لكى يصوتوا لصالح أحمد شفيق، كان منطقه هو أن الخسارة فى حالة فوز شفيق أقل منها فى حالة فوز الإخوان، وأن أى صوت يعطى لشفيق هو بمثابة إنقاص الأصوات التى يحصل عليها الإخوان، فما الخطأ فى هذا (هكذا قال) إذا كنت تفضل حكماً مدنياً على حكم دينى؟!
لم أقبل هذا المنطق بالمرة، كما أنى لم أقبل المنطق المماثل الذى قدمه لى صديق عزيز آخر، أعرف مدى رفضه لأى خلط بين الدين والسياسة، ومن ثم مدى نفوره من أن يتولى الإخوان منصب الرئاسة بالإضافة إلى سيطرتهم على مجلس الشعب، قال لى هذا الصديق إنه سيعطى صوته لمحمد مرسى، الزعيم الإخوانى، لمجرد تقليل فرصة شفيق فى الوصول للرئاسة، وهو الذى كان جزءا لا يتجزأ من النظام الذى ثار الناس ضده. خطر بذهنى أن الخطأ فى الحالين يشبه الخطأ فى حالة قبول الزائر فى قصتنا ما يعرضه عليه الضابط، بأن يقوم بقتل واحد لإنقاذ تسعة. إن تحليل الخسائر والمنافع هو عملية حسابية محضة، لا يجب فى رأيى أن تحسم القضايا الأخلاقية، فقتل رجل برىء جريمة، بصرف النظر عما يترتب عليها من آثار، وكذلك التصويت لصالح رجل سيئ، خطأ أخلاقى حتى لو وُجد من هو أسوأ منه، إن الأمر يشبه فى نظرى القيام بالانتحار بدافع تجنب الآلام الحالية والمتوقعة، أو قتل شخص لتجنيبه الآلام، لا عجب أن حرمت الأديان السماوية مثل هذا العمل، (هل يكمن الخطأ يا ترى فى المبالغة فى تصور قدرة الإنسان على التحكم فى المستقبل أو حتى على التنبؤ به؟)
فى أمثال هذه الأمور لا يجوز، فيما يبدو لى، الارتكان إلى المقارنة بين المنافع والخسائر، بل يجب البت فيها طبقاً لما يشير به الضمير، فلا يعبر المرء عما يخالف ما يشعر به، مهما كانت المنافع والخسائر. والضمير فى حالة انتخابات الإعادة، وفيما يتعلق بأعداد كبيرة من المصريين (أنا واحد منهم)، يقضى بالامتناع عن التصويت لأى من الشخصين، السيئ والأسوأ منه.
ماذا كان عساى أنا أن أصنع لو كنت فى مكان الزائر لتلك الدولة التى خُيِّر فيها بين القيام بنفسه بقتل شخص وبين قبول قتل عشرة أشخاص بيد شخص آخر؟
الأرجح أننى كنت سأرفض أن أقوم بالقتل، وسأنصرف فى غاية الحزن.
بقلم : جلال امين – الوطن