بعد ساعات، يبدأ عام دراسى جديد، ويتوافد ملايين الطلاب على المدارس والجامعات، فى رحلة تنتهى بعد تسعة أشهر تقريباً، حيث الامتحانات وإعلان النتائج، تمهيداً لفصل جديد، غايته الوصول إلى المزيد من العلم، فهل نقنع بما نحن عليه؟! وهل تغيب الهموم المزمنة للعملية التعليمية عن القائمين على صناعة القرار فى مصر؟!
الاحتياج ملح إلى ثورة فى التعليم، تتيح لنا أن نتخلص من تراكمات الأخطاء، التى تفضى إلى إنتاج ملايين من أصحاب الشهادات، لا يعرفون إلا أقل القليل، ولا يسهمون فى نهضة وتقدم الوطن بشكل فعال، فلا غاية للأغلب الأعم إلا الحصول على وظيفة، ولا طموح بعدها إلا الترقية والعلاوة وزيادة الراتب، والتطلع إلى مزيد من الحقوق التى لا تقابلها واجبات!
الكم والكيف
الإحصائيات والأرقام المعلنة عن اعداد الطلاب والتلاميذ، فى مراحل التعليم المختلفة، لا تعنى شيئاً ذا بال عند التحليل الموضوعى لمستوى التعليم المصرى ودرجة النضج التى يتمتع بها.
البطولة المطلقة للكم دون الكيف، والتركيز كله ينصب على قبول مزيد من الأعداد فى المدارس والجامعات، لكن السؤال الذى لا ينشغل به الكثيرون: أى تعليم هذا الذى يتم تلقينه، وهل يماثل أو يقارب ما يعرفه العالم المتحضر المتقدم من مناهج ومعارف؟!
لاشك أن التعليم حق أصيل من حقوق الإنسان، وضرورة حيوية مثل الماء والهواء، لكن أى جدوى من الماء الملوث والهواء المسكون بالأمراض؟ ألا يعنى هذا أن نحصد مزيدا من التعثر والارتباك؟.
الذين يتابعون نتائج الثانونة العامة، حيث يحصل المئات على الدرجات النهائية فى المواد جميعا، ولا يفصل الآلاف عن الدرجات نفسها إلا أقل القليل، يعرفون أن هذا التفوق الشكلى الخارق وليد الحفظ وحشو العقول، بلا ابتكار أو إبداع. وكم يبدو مثيراً للدهشة أن الأفذاذ من علماء مصر المعاصرين، مثل أحمد زويل ومجدى يعقوب وفاروق الباز ومصطفى السيد ومحمد النشائى، على سبيل المثال لا الحصر، لم يتجاوز مجموع احدهم نسبة 70% عند حصوله على شهادة اتمام التعليم الثانوى، فما الذى قدمه من حصلوا على 100% ويزيد فى السنوات العشرين الأخيرة؟!
الخلل ليس فى هؤلاء الطلاب المتفوقين بطبيعة الحال، فهم ضحايا لنظام جائر يخاصم المقومات العصرية، ويستثمر الذكاء فى غير موضعه، فيحيل العطية الإلهية إلى مجرد أداة للحفظ والصم. مناهج منقطعة الصلة بما يحلق اليه العالم، وامتحانات تقليدية تختبر قوة الذاكرة، ونظام للالتحاق بالجامعات يبحث عن عدالة نسبية شكلية، حافلة بالظلم.
المبنى والمعنى
تحتاج منظومة التعليم فى مصر إلى ثورة شاملة، قوامها مبنى عصرى للمدرسة والجامعة، يتضمن المكتبة والمعمل والملعب، ولا غنى عن المعلم المؤهل الذى يملك القدرة على التربية والتعليم معا، ويحصل على عائد مادى يحفظ له كرامته، ويحول دون احتياجه إلى الدروس الخصوصية، ويوفر له الوقت للقراءة والاطلاع والقيام بواجبه كاملا.
فضلا عن هذا كله، فإن الأزمة المستعصية تتمثل فى التراجع الاجتماعى لقيمة العلم وأهمية التعليم خلال السنوات الأربعين السابقة، ذلك ان معطيات الواقع وتفاعلاته لا تجعل من التعليم والعمل مدخلا للصعود الاجتماعى والمكانة المحترمة، فما أكثر الجهلاء الادعياء الذين يملكون المليارات والملايين، فما الاحتياج إلى العلم والثقافة فى ظل هذا الخلل الذى يصنع مناخا مثاليا للانحراف والفهلوة؟!
لا منى للإصلاح الجزئى ولا أمل يرتجى منه، وكل حديث عن مبنى أفضل ومنهج أكثر عصرية ومعلم مؤهل، لا يعنى شيئاً فى ذاته، ذلك ان الثورة الحقيقية لابد ان تطال هذه المجالات جميعاً، وان تتكاتف الجهود لإعادة قيمة العلم التى تبخرت، عبر سنوات من تجريف العقل المصرى وتشويه الوجدان والقيم.
ليس بالكم وحده يكون التعليم الجيد المنشود، والشعارات الوردية البراقة، مثل مجانية التعليم، لا معنى لها بمعزل عن نظرة عقلانية تمنح المجانية لمن يستحقها، وتعلى من شأن المضمون وجدواه، وتنتصر لكل عمل شريف منتج دون ارتباط بالشهادة التى تفتح أبواب المكانة الشكلية. الحراك الذى تشهده مصر الآن ينعكس بالضرورة على ملف التعليم، وثمة فريق لا يجد فى الحراك إلا مجموعة من المطالب الفئوية، حيث الحقوق بلا واجبات. ما نحتاجه هو الحراك المضاد، الذى يفكر فى تعليم جيد عبر أساليب علمية وتخطيط رشيد، وبغير هذا لا أمل فى التقدم والنهضة.






