مع اقتراب ذكرى رحيل الرئيس جمال عبدالناصر، فى الثامن والعشرين من سبتمبر، يبدو الاحتياج ملحاً للمزيد من التأمل فى تجربة حكمه، ففيها من الإيجابيات والسلبيات ما يمكن أن يمثل دروساً بين التوجهين الناصرى والإخوانى، لكن المشترك الراسخ بينهما هو ضرورة الانشغال بمصر والمصريين، لو قيل عند وفاة عبدالناصر إن رئيساً من الإخوان سيحكم بعد اثنين وأربعين عاماً، لكان الأمر أقرب إلى شطحات الخيال، فالسجون تزدحم بهم والحصار يخنق القيادات جميعاً.
لكن هذا ما حدث، وأهم ما فى الانتقال العاصف هو البرهنة العملية على أن الوطن يبقى، دون نظر إلى السياسات والرموز التى تحكم.
مصر أولاً
كان الرئيس جمال عبدالناصر عاشقاً لمصر على طريقته ووفق منهجه، لكن طموحه السياسى كان يتجاوز الساحة المصرية، فهو يراود الزعامة العربية والأفريقية والإسلامية، ويؤمن بأن «قدر مصر» يفرض عليها دوراً أكبر فى دوائر واسعة تتجاوز النطاق المحلى، وهو ما عبر عنه الثنائى صلاح جاهين وعبدالحليم حافظ فى أغنية شهيرة تعكس معطيات الواقع وتفاعلاته خلال حقبة الستينيات: «وزعيمك خلاك زعيمة».
لا شك فى مكانة مصر وخصوصياتها، لمزيج من الأسباب الجغرافية والتاريخية والثقافية، لكن ترجمة هذه المكانة إلى مواقف هى ما يستدعى الاختلاف مع بعض سياسات عبدالناصر، فقد أدت توجهات الزعيم إلى غياب اسم مصر خلال معظم سنوات حكمه، فكان اسمها عند رحيله: «الجمهورية العربية المتحدة»، وهو ما يعبر عن بقايا تجربة الوحدة الفاشلة مع سوريا. منذ فبراير 1958، تحولت مصر العظيمة بكل تاريخها وحضارتها إلى «إقليم»، وسقطت الوحدة فى 28 سبتمبر 1961، وهو اليوم نفسه الذى توفى فيه ناصر بعد تسع سنوات، واستمر حرمان مصر من اسمها حتى أعاده السادات فى عام 1972، ولعل قراره هذا كان مصحوباً بقدر من الخوف، حتى لا يُتهم بالانقلاب على سلفه والتراجع عن الأفكار الوحدوية.
لم يقتصر الأمر على غياب اسم مصر، فقد أدت طموحات ناصر فى الزعامة العربية إلى حرب باهظة الثمن فى اليمن، وتكاليف اقتصادية طائلة فى دعم قوى كثيرة خارج حدود الوطن، وأفضى هذا كله إلى كارثة يونيو 1967، عندما افاق المصريون من التحليق فى سموات الأحلام الوردية، سقوطاً فى هاوية الكوابيس المفزعة.
على الرئيس محمد مرسى أن يفيد من الدرس، ويعى أن «مصر أولاً» شعار عملى لا ينبغى التفريط فيه، شكلاً ومضموناً، فما يحتاجه المصريون محرم على غيرهم من الإخوان والأصدقاء، عرباً كانوا أم مسلمين. الإسراف فى الطموح بلا إمكانات يتحول إلى مغامرة غير محسوبة، فهل يحتمل المصريون المرهقون مثل هذه المغامرات؟!.
راية الديمقراطية
منذ أزمة مارس 1954، حسمت ثورة 23 يوليو اختيارها لأسلوب الحكم الفردى الديكتاتورى التسلطى، وغابت الديمقراطية بأدواتها وآلياتها المعروفة، تكوين الأحزاب والحق فى تداول السلطة وحرية الرأى والعقيدة والصحافة، وأفضى ذلك موضوعياً إلى غياب المشاركة الشعبية وتأميم العقول وتراجع الرقابة الفاعلة التى تنبه مبكراً إلى الأخطاء والخطايا، فلم يكن التنظيم السياسى الواحد إلا إدارة حكومية عديمة الفاعلية.
تحول عبدالناصر إلى مستبد موصوف بالثورية والطموح إلى العدالة الاجتماعية والانحياز إلى الفقراء والكادحين من أبناء الوطن، ومع التسليم غير المنقوص بوطنية الرئيس وحسن نواياه ورغبته الشريفة النبيلة فى الإصلاح، فإن المستبد لا يمكن أن يكون عادلاً أو شعبياً بالمعنى الحقيقى للكلمة، فمع الحكم الفردى تولد النزعة الفرعونية وتتكاثر جيوش المنافقين والانتهازيين، وسرعان ما يتحول الحاكم إلى ما يشبه الإله، وتسود من القواميس مفردات كريهة بغيضة مثل «الملهم» و«الحكيم» و«الزعيم التاريخى»، وغير ذلك من الكلمات التى حُذفت من القواميس السياسية للدول الديمقراطية المتحضرة، التى تعتمد فى بنائها وقراراتها على المؤسسات، وتقر بتداول السلطة، وترى الرؤساء رجال دولة يخدمون الشعب، ولا يقومون بدور الزعيم الخارق المحيط بكل شئ.
عتاة الناصريين لا ينكرون ما يشوب تجربة الرئيس عبدالناصر من تنكر للديمقراطية، والمسألة هنا لا تتعلق باستيراد شكل أوروبى للحكم، بل إنها الاختيار الصحيح المتاح لتحقيق النهضة والعدالة والتنمية الاقتصادية، والرضوخ لمنظومة الشفافية والإفادة من المعارضة والحرص على الإجهاض المبكر للأخطاء قبل أن تتحول إلى خطايا.
لم يكن ما قبل 23 يوليو خيراً كله، لكن ما بعد الحركة العسكرية كان حافلاً بالخلل، وتعرضت حقوق الإنسان لانتهاكات غير مسبوقة، تشهد عليها قضايا التعذيب فى عشرات السجون والمعتقلات، حيث تعرض الإخوان المسلمون والشيوعيون والليبراليون والمستقلون لكثير من التنكيل والإيذاء، البدنى والنفسى، الذى يفوق الخيال، وتهمتهم الوحيدة هى الاختلاف وعدم الخضوع!.
المطلوب من الرئيس مرسى أن يعى الدرس جيداً، فهو رئيس منتخب، عارض نصف الشعب تقريباً اختياره، ولم يشارك فى عمليات الاقتراع إلا أقل من النصف، فضلاً عن أن قطاعا لا يُستهان به ممن اختاروه، كانوا مضطرين كراهية فى منافسه وليس حباً له.
الدكتور محمد مرسى رئيس ورجل دولة، وحذار أن يستمع إلى ما يردده المنافقون والانتهازيون وكذابوا الزفة وقارعو الطبول عن الزعامة الملهمة والقيادة التاريخية وما يحظى به من تأييد الأجنة فى بطون الأمهات!.
على الرئيس مرسى أن يتأمل طويلاً فى تجربة عبدالناصر، مع الوعى بأن مصر فى بداية حكم ضباط يوليو كانت أكثر قسوة وانضباطا، على الصعيدين الاقتصادى والأمنى، أما الرئيس الجديد فيواجه أزمات عاتية، لا يمكن إصلاحها والتصدى الحاسم لها فى مائة أو ألف يوم.
كان عبدالناصر رئيساً لكل المصريين باستثناء المعارضة، وعلى الدكتور محمد مرسى أن يكون رئيساً للجميع دون تمييز، فالمعارض وطنى مصرى مخلص يجتهد ويخطئ ويصيب، ومعارضته ليست جريمة تستوجب العقاب والتنكيل والمحاكمة.
الثقة والكفاءة
انحازت الحقبة الناصرية لأهل الثقة الذين يدينون بالولاء المطلق للنظام، وتراجع أصحاب الكفاءة والخبرة ممن يتمتعون بقدر من الاستقلال، ويؤثرون الابتعاد عن الساحة السياسية أحادية الجانب. وإذا كان المعيار الأساسى مطلوباً فى بعض القطاعات والمؤسسات وثيقة الصلة بصناعة القرار، فإن الأغلب الأعم من المناصب الإنتاجية والخدمية يتطلب مؤهلات العلم والنزاهة والقدرة على الإدارة الرشيدة، مع الالتزام الاحترافى بسياسة الدولة.
عانى المصريون طويلاً من هيمنة المحاسيب وأهل الثقة، فهم فضلاً عن الجهل الذى يقودهم إلى التخبط وإهدار الطاقة، يحاربون بضراوة من يتصورون فيهم العلم، ويغطون على عجزهم المهنى التخصصى بالشعارات الرنانة الزاعقة غير المجدية، ويستمتعون بممارسة السيادة الشكلية التى تزداد معها الأمور تعقيداً وتدهوراً.
«أدلجة» الدولة الناصرية خطأ فادح استمر طويلاً، وعلى الدكتور محمد مرسى أن يعى الدرس ويقاوم المؤشرات الواضحة التى تنبئ عن توجه صريح بـ «أخونة» الدولة، فلا فضل لإخوانى على غيره إلا بالعلم والموهبة والكفاءة والإخلاص فى العمل الوطنى، والمناصب الحيوية لا يمكن أن تكون مكافأة يتم توزيعها على قيادات الجماعة، دون نظر إلى الأفضل والأقدر على خدمة الصالح العام.
المطلوب من الرئيس مرسى أن يراجع تاريخ القيادات الناصرية التى تولت ملفات الجيش والأمن والتعليم والشباب والحكم المحلى والإعلام، ولن يجد صعوبة فى اكتشاف أن هؤلاء هم من صنعوا الأزمات التى لم تتبخر آثارها السلبية الوخيمة حتى الآن، ذلك أنهم أفسدوا ولم يصلحوا، وكان الابقاء عليهم لحسابات لا شأن لها بالتقييم الموضوعى لما قاموا به.
السياسة الاجتماعية
يُحسب للرئيس عبدالناصر انحيازه الكامل للفقراء والبسطاء والكادحين، فهم الأغلبية الجارفة الجديرة بكل الاهتمام والدعم، لكن المشكلة كلها تكمن فى أسلوب الاهتمام ومنهج الدعم، والخطأ الأكبر فى توهم التناقض الحتمى بين الأغنياء والفقراء، فلا يتحقق العدل الاجتماعى والانصاف بمعزل عن قهر الملاك وأصحاب المصانع والشركات والمشروعات الفردية الكبيرة.
على سبيل المثال، كان تخفيض ايجارات المساكن قرارا شعبويا عشوائيا أدى إلى الأزمة المزمنة فى الإسكان، وكانت قرارات التأميم ارتجالية انتقامية غير مدروسة، لا تهدف إلى التنمية والإصلاح الاقتصادى، قدر استهداف تصفية الموصوفين بأنهم «أعداء الشعب»!
ضرب الاغنياء والتنكيل بهم لا يقل فداحة عن قهر الفقراء وإهمال مصالحهم، فالتباين الطبقى حقيقة انسانية تاريخية، والصراع الطبقى فى ذاته ليس هدفا، وتذويب الفوارق ينبغى ان ينهض على أسس قانونية عادلة، مثل الأخذ بنظام ضرائبى جيد، وتدعيم الدور الاجتماعى لرجال الأعمال والقادرين.
على الرئيس محمد مرسى ان يستوعب دروس التجربة الناصرية، فلا ينساق وراء أصحاب المصالح ممن يملكون المليارات والملايين، ولا يندفع وراء الأفكار التحريضية التى تطالب بالمساواة الكاملة المستحيلة، وفى السياق نفسه، لابد ان تكون الأولوية للكيف دون الكم، فليست القضية فى بناء عشرات ومئات المدارس والمصانع والمستشفيات، كما كان الحال فى العهد الناصري، لكن المعيار الأهم هو جودة التعليم ونوعية السلعة المنتجة وكفاءة الخدمة الطبية.
الاختلافات لا تُعد ولا تُحصى بين الإخوان المسلمين وعبدالناصر، والمشترك الأصيل – أو هذا ما ينبغى ان يكون – هو الانتماء لمصر والولاء لشعبها دون شريك، فليت ان سلطة اليوم تتعلم من أخطاء سلطة الماضى القريب، وعندئذ سيكون المصريون وحدهم من يربحون.






