يتباين موقع الدين فى العوالم الإبداعية تبعاً لعوامل عديدة: موقف المبدع من الدين، طبيعة الدور الذى يحتله الدين فى المرحلة التاريخية التى يبدع فيها، نوع الجنس الأدبى الذى يتم التعبير من خلاله، ما هية القضايا الرئيسية التى تسيطر على عالم المبدع ومدى علاقتها، سلباً أم إيجاباً بالدين.
من الناحية الدينية، يتفق الجميع فى ممارسة واحدة، تحددها قواعد وأحكام معروفة، ومن الناحية الاجتماعية يتباين التعامل مع الحج تبعاً لمستوى الثقافة والوعى. ينخرط الحجيج جميعاً فى إطار روحى يسمو بهم ويوحدهم وينأى بهم عن كل مرذول مكروه من الممارسات غير السوية، لكن عودتهم إلى الحياة اليومية فى بلادهم، تكشف عن فوارق هائلة بين من تؤثر عليهم الفريضة السامية، وبين من يواصلون حياتهم بعد تغيير طفيف، أو بلا تغيير على الإطلاق!.
الدينى والاجتماعى
منذ أن بدأ يوسف إدريس رحلته الإبداعية فى أواخر الأربعينيات من القرن العشرين، وحتى نهاية هذه الرحلة فى أوائل التسعينيات، يشكل الدين جزءاً رئيسياً نابضاً فى عالمه الإبداعى، عبر مختلف الأجناس التى عبر بها: القصة القصيرة والرواية والمسرحية.
من ناحية أخرى، فإن ذاتية يوسف إدريس، المرض والخوف من شبح الموت، تلعب دوراً مهماً فى تشكيل وتطور موقفه من الدين، وكان لتباين الموقع الذى يحتله الدين فى الحياة المصرية، خلال العقود الأربعة التى أبدع خلالها، تأثيره على الموقف من الدين. ومثلما تختلف القضايا التى شغلت اهتمام إدريس فى رحلة تطوره، فقد اختلفت – بالتبعية – رؤيته للدين وتطورت.
الحج عند يوسف إدريس فريضة دينية ترتبط بالارتحال والانتقال من الوطن الأصلى إلى البقاع المقدسة، وينعكس هذا المفهوم على لغة إدريس، الذى يراه فى مسيرة الأسماك إلى «غاية مجهولة»، قصة «الرأس» مجموعة «العسكرى الأسود»، نوعاً من «الحج المقدس»!.
قداسة الحج دينياً، وأهميته اجتماعياً، تنبع من كونه فريضة مهمة تتوافق مع رحلة العمر، وتدل على الوصول إلى مرحلة النضج والاستقرار والزهد.
أبناء بطلة قصة «دستور.. يا سيدة»، مجموعة «النداهة»، يعبرون عن حبهم وتقديرهم للأم، التى ضحت بشبابها فى سبيلهم، فيبشرونها بالحج فى العام القادم، ويطلبون منها الدعاء وقراءة الفاتحة.
راحة ومتعة
عندما تستقر الأحوال المادية للحاج نصار، فى مسرحية «اللحظة الحرجة»، ويتخلص من كوابيس الفقر والمعاناة، يلقى عبء العمل فى الورشة على ابنه، ويميل إلى الراحة والاستمتاع بحياته، الحج ذروة المتع التى يتوج بها الرجل حياة التعب، أو كما يقول الابن: «أبويا خلاص.. شغلته دلوقتى إنه يستريح ويقعد فى أوضة المكتب يقابل الزباين الهاى»!.
ومثلما يفخر نصار بصلاته وصيامه وإخلاصه فى العمل، فإنه يباهى بالحج وزيارة قبر الرسول مرتين.
هذا الإطار الدينى المباشر، لا يحول دون ظهور الطقوس الاجتماعية، ذلك أن الحج، من الناحية الواقعية، رحلة دالة على الوجاهة والمكانة الرفيعة والقدرة المالية، ويحرص العائدون من الحج على إهداء أقاربهم وأصدقائهم بعض التذكارات المرتبطة بأداء الفريضة، ويحرص المهدى إليهم على الاحتفاظ بالهدايا التذكارية. وفى قصة «المحفظة»، مجموعة «قاع المدينة»، يفتش المراهق سامى فى محفظة أبيه، بحثاً عن نقود يذهب بها إلى السينما، فلا يجد إلا مظروفاً مكتوباً عليه: «قطعة من كسوة الكعبة الشريفة هدية من العبد الفقير إلى الله تعالى الحاج مبارك محمد حسن. قطعة القماش السوداء هذه التى فى الظرف من الكعبة؟ ياه!! إن رائحتها صعبة.. أمِسك ذاك أَم عنبر؟.. هى السبب إذن فى تلك الرائحة المقبضة التى تنبعث من المحفظة»!.
الفلسفة الغائبة
لا ينهض الحج دائماً دليلاً على التدين والتقوى، فالدافع إليه قد لا يكون الشعور الدينى وحده عند بعض شخوص يوسف إدريس.
فى قصة «أكان لابد يا لى لى أن تضيئى النور؟»، مجموعة «بيت من لحم»، تدور الأحداث فى حى الباطنية، الذى كان معقل تجارة المخدرات فى مصر، حيث يتحول الحج: «إلى تاج على رؤوس كبار تجار المخدرات، وعلى الأقل يتيح القسم ساعة الصفقات بشباك الرسول»!.
وعندما يتحول الحج إلى رحلة تجارية فارغة من المضمون الدينى، تتحول المقارنة فى قصة «أنصاف الثائرين»، مجموعة «اقتلها»، لصالح اليهودى الذى لا يكذب ولا يغش، إذا وُضع فى كفة مقابلة مع الحاج المسلم المدعى: «الخواجة كان أحسن.. ألف مرة أحسن! خواجة على غير الدين والملة لا يكذب ولا يغش. لم يذهب للحج ومعه حقيبة ضخمة فارغة، وعاد بملء عربة لورى بضائع للتجارة والاستهلاك»!.
ما جدوى أداء فريضة الحج إذا لم تكن وسيلة لتغيير السلوك، وتقويم الأخلاق، وتهذيب النفوس؟!.








