لم يكن الكاتب الكبير يحيى حقى قصصياً فذاً وناقداً متميزاً فحسب، بل إنه أيضاً صاحب حصيلة وفيرة من المقالات المتنوعة التى تجمع بين العمق والبساطة، ونشر الأغلب الأعم منها فى جريدتى «المساء» و«التعاون»، منذ نهاية الخمسينيات حتى أوائل السبعينيات وتطرق فيها إلى شتى القضايا الاجتماعية والثقافية التى ينشغل بها الرأى العام المصرى.
يحظى الدين باهتمام خاص فى مقالات يحيى حقى، ومنطلقه فى التعامل ليس فقهياً متخصصاً، وذلك أن المنظور اجتماعى ذو نظرة شاملة كلية عميقة، لا تقف عند جانب واحد، وتسعى إلى الربط بين جزئيات اللوحة بحثاً عن رؤية متكاملة.
يتعامل يحيى حقى مع فريضة الحج على اعتبار أنها أقرب إلى المؤتمر الإسلامى العام، وليست مجرد فريضة دينية فردية، وهو يراهن على تحقيق كثير من الفوائد والمنافع إذا نجح موسم الحج فى التعامل مع الحياة، والتفاعل مع البشر ومشكلاتهم وهموهم، المشكلات المقصودة ليست ذاتية شخصية تتعلق بالأفراد، لكنها ذات طابع عام، تطول الجميع وترتبط بالمناخ السياسى والاقتصادى والاجتماعى والثقافى الذى يلقى بظلاله الكئيبة على المسلمين فى مرحلة الاستضعاف والتخلف والتعرض للقهر الاستعمارى.
فى مقال يحمل عنوان «من وحى العيد» نشرته جريدة «المساء» فى الحادى عشر من مارس سنة 1968 يكتب يحيى حقى: «منذ ذلك الحين نبت فى ضمير الأمة الإسلامية على استحياء أمل عزيز يعتمد على إعطاء تفسير عصرى جديد لمعنى فريضة الحج، أمل أن يصبح الحج مؤتمراً شعبياً منظماً يتداول فيه المسلمون جميعاً فى أمورهم طلباً للخلاص من التخلف ومن الاستعمار.
تمزق وتشرذم عربى إسلامى انفصام وشتات وأشلاء متنافرة لا رابط بينها ولا ترابط، وفى ظل هذا الواقع يبدو منطقياً أن يعكس الحج حالة المجتمعات التى ينتمى إليها الحجيج، جهل ومرض وفقر وضعف.
من حصيلة ذلك كله تنبت فكرة أن تتحول الفريضة الدينية إلى مناسبة اجتماعية شعبية تمثل مدخلاً للخلاص من التمزق ومحاولة لمقاومة الانهيار.
الواقع العربى الإسلامى المؤلم، قوامه مزيج من الجهل والمرض والفقر، وفى الحج «أمل» للخلاص من الأمراض الاجتماعية المتواطنة المزمنة، رؤية يحيى حقى هذه مستمدة من اجتهاد فى تفسير عصرى للقرآن الكريم، كما يتجلى فى قوله الشارح: «تفسير إضافى لمعنى الآية الكريمة «ليشهدوا منافع لهم».. وهل هناك منافع للمسلمين تفوق منافع التشاور من أجل توحيد الكلمة على الجهاد للخلاص من ذل التخلف ومن ذل الاستعمار.
المرحلة التاريخية التى كتب فيها يحيى حقى مقاله، مارس 1968، تنعكس على معالجته التى تبدو أقرب إلى صيحة تحذير ممزوجة بالألم والمرارة، إذا لم يجتمع العرب والمسلمون بعد الهزيمة، وإذا لم يحولوا دينهم من رابط شكلى هش، إلى رابطة قومية حيوية، فما الذى يتبقى إذن من إسلامهم وانتمائهم إلى دين واحد؟!
حدود التغيير
فى السنة التالية، يعود يحيى حقى ليؤكد فكرة أن الحج انعكاس لواقع اجتماعى، فيقول فى مقاله «مطر قبيل الغروب»، الذى نشرته جريدة «المساء» فى الرابع والعشرين من فبراير سنة 1969: «حجاجنا أغلبهم فقراء من الفلاحين يذوقون لأول مرة بفضل الحج نعمة المساواة بأسيادهم الأثرياء، لم يسلم ركب هذا الحجيج من أن يندس فيه النشالون، وأن يلوذ به أيضاً بعض العاصيات طلباً للتوبة، وبعض السكارى لأنهم يريدون أن يحلفوا على الامتناع عن شربها ويدهم تلمس شباك النبى».
ولأن الحج فريضة دينية سامية، يمارسها بشر مسكونون بالضعف، فإن رحلة الحج لا تعنى تغييراً شاملاً فى الطبائع البشرية، يتجلى ذلك بوضوح عندما يكتب حقى فى جريدة «التعاون»، الثالث عشر من مارس سنة 1966 مقالاً يحمل عنوان «العيد الكبير يقترب»، يقول فيه: «الداهية الأرقم الذى يريد أن يحتكر فى القرية بيع الكرامات، وأن يجد قسماً يروج به مماطلته وباطله وكذبه وغشه النبى صلى الله عليه وسلم اللى حطيت إيدى على شباكه.. وكم فى ريفنا من نوادر ونكت عن الحاج اللى ذمته كاوتش».
أمثال هذا «الداهية» لا يغيرهم الحج ولا يغسل أرواحهم، ذلك أن الفريضة الدينية المقدسة تتحول عندهم إلى مجرد وسيلة للابتزاز وإضفاء شرعية كاذبة على المزيج المركب المعقد من الغش والتدليس والخداع!
تقدم مقالات يحيى حقى نموذجاً جديراً بالتأمل والاحتذاء للأسلوب الأمثل فى التفاعل مع الواقع والاشتباك مع قضايا، فالكاتب الكبير المثقف الملتزم، المخلص فى حب الوطن والشعب يتسلح باللغة الدقيقة البعيدة عن الابتذال، ويملك موهبة أن يحارب دون التورط فى إسالة الدماء. التنوير مطلبه، والإصلاح غايته، والنصح الحكيم لا يعنى السب والشتم والتعالم وازدراء الآخرين الأقل علماً وحكمة ووعياً.
