يبدأون يومهم قبل شروق الشمس، وينهونه مع غروبها، يخرجون من الحجرات التى استأجروها.. تجدهم فى جماعات يفترشون أرصفة الشوارع فى انتظار من يطلبهم لأداء الأعمال الشاقة، يتفحصون المارة ويترقبون السيارات التى تتوقف أمامهم علها «تحمل الخير لهم».. يتمنون ألا يمر اليوم كسابقه دون عمل، ومع ذلك لا يملون من الجلوس أمام «المطرقة والأجنة والأزميل» فى انتظار الزبون الذى قد يغيب لأيام، يتنقلون بين شوارع بولاق ومدينة نصر والسيدة عائشة وشبرا.. والهدف «لقمة العيش».
حسن الرفاعى، عامل جاء من أقصى الجنوب يسعى باحثاً عن جدار يريد أن ينقض فيقضه، يشاء أن يتخذ عليه أجراً يسد به رمق أسرة تركها ونزح إلى العاصمة، ولكن صاحب الـ 30 عاماً والثلاثة أبناء يجلس فى منطقة أرض اللواء ببولاق الدكرور منذ أسبوع دون أن يدخل جيبه جنيه واحد، لكنه يواسى نفسه دائماً فيقول: «إحنا قاعدين صابرين على الغُلب وربك يفرجها».
الرفاعى كان يعمل صياداً بمحافظة سوهاج، ولكن بعد أن ضن عليه النهر بالرزق، وتوقف إيراده اليومى عند 25 جنيهاً يحصل العامل المرافق له على ثلث المبلغ، قرر التوقف عن الصيد وجاء إلى القاهرة منذ 7 سنوات ليعمل باليومية فى المقاولات.
حسن انتخب الدكتور محمد مرسى لرئاسة الجمهورية وينتظر أن يوفر له فرصة عمل كما ينتظر أن يحصل على حقه من الإخوان، ولكنه غير مستعد للمشاركة فى ثورة ضد حكمهم لأنه على حسب قوله «أنا أولى باليوم اللى هيضيع فى المظاهرات ولو إنه مفيش شغل أصلاً»!.
رفقاء حسن يجاورونه على الرصيف يطبقون ما غناه لهم سيد درويش فى عشرينيات القرن الماضى «الشمس طلعت والملك لله، ما تشيل قدومك والعدة ويالله، اجرى لرزقك خليها على الله».
وبرغم تأييد سكان محافظة الفيوم لمرشح الإخوان الدكتور محمد مرسى فى انتخابات الرئاسة التى حصل مرسى على أغلبية الأصوات فيها، قال المحمدى خليفة، القادم من مركز طامية إن العمالة اليومية هى «آخر حاجة هيفكروا فيها، احنا آخر درجة من البنى آدمين»، يسكن فى شقة بإيجار شهرى 300 جنيه مع 9 آخرين من العمال لا توجد بها سوى كراتين وبطاطين يفرشونها للنوم، ويحلم بأن توفر له الدولة أى فرصة عمل حتى ولو جامع قمامة ويقول «على الأقل يبقى مصدر رزق ثابت للعيال!».
المحمدى لم ير أولاده الثلاثة وهم يتنقلون بين مراحل التعليم الابتدائى والإعدادى منذ أكثر من شهرين، ويكتفى بإرسال الأموال القليلة لهم مع العائدين من قريته، ويقول: «أنزل ليه طالما مفيش شغل هنا أو هناك، أنا دخل بيتى 500 جنيه بس فى 3 شهور وأعلى يومية بتبقى 50 جنيه!».
أما أحمد على، من محافظة الفيوم عمره 54 عاماً ويعمل فى القاهرة منذ ربع قرن فيقول إنه لم يغادر مكانه منذ ستة أيام بسبب الركود الذى أصاب سوق المعمار، حيث يستيقظ فى السادسة صباحاً ويعود بعد المغرب وينفق من ماله القليل الذى ما ان ينتهى يمد يده لزملائه، ويقول: «أعمل إيه.. أنا بستلف من الناس اللى معايا واللى بيشتغل فينا يصرف على التانى!».
الحاج أحمد خير يطبق مقولة سيد درويش «شد الحزام على وِسطك غيره ما يفيدك» يشترى هياكل الفراخ بديلاً عن اللحم، ورغم ذلك يعانى من ارتفاع أسعارها «ده حتى كيلو الهياكل بقى بستة جنيه!».
هؤلاء المتراصون فى الشوارع لم يخرجوا فى مظاهرات ولن يخرجوا ورغم اختيارهم جميعاً مرشح الإخوان فإنهم لا يريدون نقابة ولا دخلاً بلا عمل فقط يبحثون عن فرص عمل مناسبة بعيداً عن استغلال الشركات التى يعملون لدى بعضها لمدة أسبوعين أو شهر، وفى النهاية لا يحصلون على شىء وأيضاً ليرحمهم من عامل النظافة الذى يهيل عليهم تراب الشارع لأنهم لا يملكون إعطاءه ثمن جلوسهم على الرصيف.
مجدى فتوح، عامل من محافظة الفيوم أيضاً ولكنه مثقف بعض الشىء بسبب مشاهدته للتليفزيون فى المقهى الذى يقع أسف العقار الذى يسكنه ويقول: «أنا مش متعلم وانتخبت مرسى بس بعد كده سمعت واحد بيقول إن مبارك مشى وجه بداله راس مالى بدقن»، هكذا نطقها «راس مالى» بدون همزة على الألف وبعد التوضيح قال «أنا مليش دعوة شمال ولا يمين أنا عايز حقى فى البلد».
ورغم ذلك لا يرى خطأ فى انجابه سبعة أولاد منهم من حصلوا على الابتدائية ويعملون بالأجرة فى الحقول الزراعية والثلاثة الآخرين ينتظرون دورهم، ويقول: «رزق العيال من عند ربنا» ورغم امكانية وصول أجره اليومى إلى 100 جنيه، فإن أيام العمل القليلة تجعل دخله معدوماً – على حد وصفه – رافضاً اعتباره من محدودى الدخل فهو عضو فى نقابة «التعبانين» يشترى لأولاده طقماً جديداً كل عيد.
وفى مدخل شارع الهرم عند نفق نصرالدين، جلست مجموعة من أهل الصعيد، مصطفى عبدالحكيم عامل من المنيا يبلغ من العمر 28 عاماً ولديه أربعة أولاد أكبرهم عمره 5 سنوات يعمل فى القاهرة منذ 7 سنوات الوحيد ممن التقيناهم الذى شارك فى مظاهرات التحرير ويبدى استعداده للنزول مرة أخرى إذا لم يحصل الصعيد على حقه فى حكم الإخوان.
مصطفى، فكان يعمل مزارعاً فى المنيا، وعندما تزوج فى غرفة بمنزل الأسرة جاء إلى القاهرة لتحسين دخله، يعمل يوماً ويجلس فى المنزل لأيام يقتصر نشاطه على رفع مخلفات الهدم وتكسير الحوائط وأعمال المقاولات الصغيرة، لكن الركود الذى أصاب سوق العمل أثر على نشاطهم بسبب عدم امتلاكهم حرفة معينة يقتاتون منها، ويؤكد أن رئيس الجمهورية يجب أن يتحمل مسئوليته بعد أن حصل على أصواتهم «لازم يحس بالبلد وأحوالها ويشوف حال العمال».
أما صابر محمود، عامل من مركز ملاوى بالمنيا «43 عاماً» فهو غير متعلم ولديه سبعة أبناء أكبرهم يقضى خدمته فى القوات المسلحة، ويتحدث عن حلمه الوحيد قائلاً: «أنا عايز الحكومة تشغل ابنى الكبير علشان يصرف علىّ وعلى اخواته».
صابر عمل بالزراعة منذ صغره حتى كبر أبناؤه، وزادت نفقاتهم فجاء إلى القاهرة منذ 12 عاماً ليعمل باليومية، يرى أن سوق العقارات أصابه الركود منذ أكثر من عامين أى قبل الثورة بقليل، والشركات أصبحت تستغل العمال، ولا تعطيهم حقوقهم فاختاروا الجلوس على الرصيف فى انتظار من يطلبهم لتكسير جدار أو تنظيف عمارة من مخلفات البناء.
ويرى صابر أن الرئيس يجب أن يحصل على فرصة أكبر من الـ 100 يوم الأولى، ولكنه يؤكد أن الشعب لن ينتظر كثيراً لأن جميع العمال ساءت أحوالهم حتى أصحاب الحرف اليدوية مثل النجارين والنقاشين وعمال المحارة تأثرت أعمالهم بعد الثورة.
ثابت حسين، عامل من الفيوم تأثر دخله بعد الثورة ورغم سنواته الـ 44 وعملية الغضروف التى أجراها فى الظهر، فإنه مضطر للعمل للانفاق على زوجته وأبنائه الأربعة وتسديد تكاليف العملية الجراحية التى استدان من أجلها.
يصف ثابت معاناته بأنه فى الأيام القليلة التى ينزل فيها إلى العمل يظل يقوم بالتكسير طوال اليوم مقابل 80 أو 100 جنيه على حسب «كَرَم» صاحب العمل، ويقول «بالليل وأنا نايم بفضل أخبط بدراعى كأنى لسه بكسر!».
«مين فى اليومين دول شاف تلطيم زى الصنايعية المظاليم، الصبر أمره طال من بعد وقف الحال، ياللى معاك السُلطة بردو الفقير له حق عليك» كلمات رغم أنها كتبت قبل قرن من الآن إلا أنها تعبر عن ظلم صاحب المال، وصاحب السُلطة للعمال الذين يؤكدون أنه ما إن يملكون قوت يومهم فقد ملكوا الدنيا بما فيها، وأغلى آمانيهم الستر والصحة ولكن على أولى الأمر أن يحذروا غضب من اعتادوا ألا يغضبوا.
كتب – محمد درويش
