سياسات التطوير أدت إلي تجريف الهيئة وتدمير الكفاءات
واقع أداء البورصة يكشف ضرورة تغيير منهج اختيار القيادات
يتبع صديق عزيز وأحد الشخصيات البارزة في سوق المال المصري نظرية اسماها « طنط كوكب »، وهي كناية عن طريقة الوصول لأي شخص مسئول أو بات مسئولاً في الدولة، ولا يحتاج الأمر سوي أن تبحث جيداً عن « طنط كوكب » حتي تصل لهذا المسئول في ساعات قليلة وتكون من المقربين والقادرين علي حجز مكان متقدم في الصورة وذا تأثير فيما يتعلق بقرارات المسئول وتوجهاته، وبالتالي فـ« طنط كوكب » هي أي شخصية تمنحك جواز العبور للسادة أصحاب القرار.
ونظرية « طنط كوكب » تم تطبيقها لسنوات طويلة في طريقة اختيار قيادات هيئة سوق المال التي تحولت للرقابة المالية لاحقاً والبورصة علي مدار العقدين الماضيين ولست راغباً في تقييم شخصيات اعتز بها جميعاً وان كان ذلك يصلح في وقت آخر لاستخلاص دروس من طريقة إدارة كل منهم لمؤسسات القطاع المالي غير المصرفي ولكن ما يدور ـ حالياً ـ في هيئة الرقابة المالية والبورصة هو تطبيق عملي لنظرية « طنط كوكب » فرغم تعيين رئيس لكلتا الجهتين وتزامن ذلك مع التغيرات السياسية التي شهدتها البلاد مما تسبب في تأخر صدور قرارات تعيين رئيسا البورصة والهيئة رغم استلامهما للعمل فعلياً في 2 يوليو الجاري إلا أن أي مسئول لم يخرج علينا ليؤكد استمرار قيادات الجهتين في منصبيهما أم لا واضطر د. وليد حجازي، رئيس الهيئة إلي مغادرتها بعد تلقيه من مسئولي وزارة الاستثمار اخطاراً شفوياً بأنه ليس رئيس الهيئة لأنه لم يصدر له قرار في حين تسلم عاطف الشريف، رئيس البورصة وأشرف كمال، نائبه مهام العمل وباشرا مهامهما وعلي طريقة « طنط كوكب » انهالت محاولات الوصول إلي وزير الاستثمار أسامة صالح ود. زياد بهاء الدين، نائب رئيس الوزراء للشئون الاقتصادية كل يحاول ان يرشح رئيساً للهيئة والبورصة أو يؤكد عدم صلاحية اختيار كل من رئيسي الهيئة والبورصة لا لشيء سوي أنهما ليسا من «الشلة» أو أنهما غير معروفين للسوق أو أنهم دون المستوي المطلوب دون ان يخبرنا أحد هؤلاء عن أي مستوي يتحدثون ولماذا صمتوا عن اختيار قيادات نزلت علي السوق بالبراشوت مراراً وتكراراً وازعم ان السبب الرئيسي لعدم الرضا لدي البعض عن حجازي والشريف أنهما ليسا من «الشلة».
وهنا لابد أن أقر بأنني لا أعرف د. وليد حجازي ولم التقيه من قبل وكوني تربطني علاقة شخصية قوية بكل من عاطف الشريف وأشرف كمال لن تمنعني من انتقادهما أو تأييدهما طالما استحقا هذا أو ذاك دون اعتبار لبعض المتربصين أو المزايدين.
ولا أجد مبرراً لعدم استكمال إجراءات تعيين د. وليد حجازي رئيساً للهيئة سوي ان يكون الرجل قد تخلي عن مواقفته السابقة بتولي المنصب فالمؤهلات العلمية التي يحوزها بماجستير ودكتوراه في القانون من «هارفارد» وخبرات عملية في طروحات وعمليات تمويل بمكاتب دولية ومحلية لا يمكن ان يشكك فيها أحد وأنه يملك «C.V» وخبرة تؤهله لتولي المنصب علي الأقل قياساً بمن سبقوه في المنصب اللهم إلا خلوه من « طنط كوكب » ومن العبث اتهام الرجل بأنه اختيار إخواني في ظل التصريحات الرنانة بأنه لا اقصاء أو استبعاد لأنصار التيار الإسلامي وبعيداً عن عودة رجال عصر مبارك فإن أجواء تعيين حجازي تؤكد أن وزير الاستثمار السابق بذل جهداً غير عادي لاختيار رئيس لهيئة الرقابة المالية بدأ بتلقي ترشيحات من العاملين بالسوق وعرض رئاسة الهيئة علي أكثر شخص حظي بترشيح قيادات السوق وهو أشرف سلمان، الرئيس التنفيذي للقاهرة المالية القابضة وسعي لاقناع سلمان عدة مرات إحداها بلقاء خارج الوزارة واعتذر عدد من الخبرات العاملة بالسوق عن تولي المنصب لست متأكداً أنها تلقت مكالمات مباشرة من الوزير إلا أنه تم استطلاع رأيها عبر عدد من قيادات العاملين بالأوراق المالية والتقي الوزير رئيس قسم إدارة الأعمال بجامعة القاهرة وكان تعليقه أن الرجل خبرة علمية كبيرة وأنه سيقوم بالاستعانة به كمستشار، أما العمل التنفيذي بالهيئة فيحتاج لخبرة عملية بالسوق وتم اختيار حجازي بعد ماراثون من المشاورات ورفض عدد كبير من الكوادر لأسباب عديدة بعضها يتعلق بالعائد المادي الضعيف إذ لا يتجاوز ما يحصل عليه رئيس الهيئة ـ حالياً ـ حوالي 25 ألفاً شهرياً بخلاف بدلات التمثيل ومكافأة مجلس إدارة البنك المركزي وآخرون رفضوا لعدم الرغبة في العمل مع نظام الإخوان وعدد كبير رأوا أنه لا توجد حماية قانونية مناسبة لشغل المنصب الذي قد يؤدي بصاحبه إلي الملاحقات القضائية من أشخاص لا علاقة لهم بموضوع الشكاوي سوي استغلال حالة الانفلات وفوضي التقاضي ورفضت رئيس أمناء الاستثمار بأحد البنوك وهو سبب تكرر مراراً للرفض تولي المنصب لأنه يترتب عليه فقدان الاستقرار في الوظيفة الحالية وأن قبول المنصب مخاطرة بالمستقبل إذ لا يوجد ضمان بالاستمرار في الوظيفة لمدة كما أن العودة للعمل في القطاع الخاص قد تكون صعبة بعد العمل كرقيب.
وتؤكد أجواء تعيين رئيس الهيئة د. وليد حجازي أنه لم يتم تعيينه وفق مخطط «الأخونة» وهذا لا يعني أننا أمام شخص لديه ضمانات بالنجاح ولكنه مؤهل علمياً وبالخبرة لتولي المنصب.
إلي أن يثبت العكس وفي هذه الحالة لن يطالب أحد ببقائه وإن كنت أعتقد أن بعضاً من أنصار طنط كوكب سيكونون في حالة ضعفه وفشله من مؤيديه والمطالبين باستمراره لأنهم سيتمكنون من صناعة الثروات في عهده.
ولا يجب أن نختصر مشكلة الهيئة في رئيسها، فالطريقة التي أديرت بها خلال العقدين الماضيين كفلت تدميرها وإحباط العاملين فيها، فكل رئيس هيئة جاء بمعاونيه ومساعديه ومستشاريه من الخارج ليحصلوا علي المناصب العليا والمرتبات المدعومة بالمعونة الأمريكية والأوروبية وغيرها وسرعان ما تبدد الحال عقب رحيل كل رئيس هيئة ورجاله وكأنها حقل تجارب واكتساب خبرة وعلاقات للقادمين من الخارج علي حساب هيئة تم تجريفها من كوادرها بين مسافر للخارج ومغادر للقطاع الخاص ومحبط غير راغب في الحفاظ سوي علي حقوقه المالية والوظيفية.
ولست ضد الاستعانة بالعاملين في الشركات والقطاع الخاص ولكن لا يمكن قبول استمرار اسناد مهمات الإدارات الرئيسية بالهيئة لأشخاص علي سبيل الإعارة ولفترات مؤقتة ولابد أن يكون لدينا كادر رقابي تتم ترقيته وتدريبه لتولي الوظائف القيادية من داخل الهيئة ولا يوجد ما يمنع أن يكون رئيس مجلس إدارتها ذاته من داخلها لأن النظام الذي اخترناه لتطوير وتحديث الهيئات والمؤسسات العامة لم يسفر سوي عن تدميرها، فهل نستمر في تكريث ذات السياسات التي تفتقد الرشد في التفرقة بين الأدوار الاستشارية والعمل التنفيذي الرقابي؟.
النتيجة التي وصلت إليها الهيئة بعد كل السنوات الماضية والملايين التي أهدرت من المعونة علي عمليات التطوير تستوجب المساءلة أو علي الأقل اتباع منهج مختلف في إدارة هذه المؤسسة التي تم التقليل من شأنها رغم أنها لا تقل في دورها عن البنك المركزي ولها دور أساسي في عملية التنمية من خلال الأسواق غير المصرفية، لكنها لم تحظ سوي بالتكالب علي المناصب بها خلال السنوات الماضية وترضية أصحاب الحظوة دون تطوير للأسس التشريعية الحاكمة لها أو علاقاتها بمؤسسات الدولة حتي تم تخفيض سلطة تعيين رئيسها من رئيس الجمهورية إلي رئيس الوزراء وتجاهلها في الدستور كجهة رقابية مستقلة.
ويزداد الأمر سوءاً بالنسبة للبورصة التي تعامل معها الجميع علي أنها مؤسسة تابعة للهيئة والوزارة، وتحتاج إلي قانون خاص لتنظيم شئونها المالية والإدارية والصلاحيات التي تمارسها وسلطاتها علي أعضائها وعلاقتها بالهيئة وبجميع أطراف السوق.
ولأول مرة يتم تعيين رئيس البورصة ونائبه من العاملين بها، وبالفعل ينقص الشريف وكمال عدد من المؤهلات بالتأكيد ليست علمية فكلاهما حاصل علي ماجستير في أسواق المال وليست الخبرة فهما من مطبخ البورصة وشاغلا وظائف قيادية بها علي مدار تاريخهما بها وتدرجا في الوظائف والخبرات منذ تخرجهما، فماذا ينقصهما؟، لا ينقصهما سوي « طنط كوكب » فلم يكونا أعضاء في الحزب الوطني أو لجان سياساته أو ممن مارسوا رذائل الاستثمار في صفقاتهما وطروحاتهما بالسوق ولا علاقة لهماً بالإخوان من قريب أو بعيد وليس من المقبول استبعادهما لأن الوزير السابق اختارهم وكأن كل من تولي منصباً في عهد الإخوان إما عضواً في مكتب الإرشاد وإما خلية نائمة بهذا المنطق الساذج لابد أن نطالب باستبعاد هشام رامز، محافظ البنك المركزي الذي اختاره وقابله وعينه محمد مرسي الرئيس السابق.
إذا كان مطلوباً لرئيس البورصة أن يفهم في طريقه زراعة عيش الغراب، فبالطبع الشريف وكمال لا يصلحان، أما إذا كانت عمليات قيد وتداول ورقابة وتنشيط دور البورصة في القيام بدورها الأصيل لتشجيع الاستثمار وتوفير التمويل متوسط وطويل الأجل، فهما بالتأكيد قادران علي القيام به ويكفينا القياس مع القيادات السابقة للبورصة.
ولابد أن نعترف بأن البورصة بها قيادات أخري متميزة علي رأسها محمد الصياد، مساعد رئيس هيئة الرقابة المالية السابق وأحمد عبدالرحمن، مساعد رئيس البورصة للرقابة ورئيس الرقابة في الهيئة لسنوات طويلة وغيرهم ويحملون شهادات علمية في تخصص أسواق المال ولكنهم جميعهم يفتقدون لـ « طنط كوكب ».
وبعد كل الخبرات التي أدارت البورصة من خارجها ولهم جميعاً احترامي وتربطني بهم علاقة إنسانية وطيدة.
ألا يستدعي ما وصلنا إليه من واقع مراجعة لاتاحة الفرصة لكوادر جديدة بعيداً عن سلة الشخصيات المكررة ومنهج الاختيارات الخاطئة، تعدد المستثمرين بالبورصة المصرية فضحية بكل المقاييس ولا يعبر سوي عن فشل هذه المؤسسة علي مدار السنوات الماضية في استغلال الطفرة التي تعدت بالمتعاملين لما يتجاوز المليون شخص حتي بات من يتعاملون الآن دون مستوي الـ 50 ألف شخص، بفضل السياسات الفاشلة ناهيك عن الخلاف المستمر مع مؤسسات السوق الأخري والضعف الشديد في البنية المؤسسية حتي أصبح حلم السوق اختصار عدد المستندات في سوق نقل الملكية ويكفي أن نعلم تجاوز عدد العمليات المعلقة عن التنفيذ في نقل الملكية لتسعة آلاف وخمسمائة عملية وإصرار رئيس البورصة السابق علي تحصيل ضرائب علي عمليات نقل الملكية للأوراق المحفوظة مركزياً رغم أن قرار مصلحة الضرائب ينص علي تحصيلها من جانب المقاصة حتي رضخت الشركات لعدم تأخير تنفيذ العمليات بسداد الضريبة في البورصة والمقاصة وإلغاء طرح لإحدي الشركات رغم استيفائه للقواعد المقررة وكأنه لا مؤسسة ويكفي أن البورصة ترفض استلام مخاطبات أي شركة أوراق مالية أو مقيدة بطريقة رسمية وكأنها مؤسسة تعمل في الفضاء الخارجي بدون قواعد تحترم أعضاءها والشركات المقيدة بها.
أياً ما كانت اختيارات د. زياد بهاءالدين وأسامة صالح باعتبارهما أصحاب الولاية علي الهيئة والبورصة بصفة الأول نائباً لرئيس الوزراء للشئون الاقتصادية والثاني وزير الاستثمار الذي يرشح قيادات المؤسسة لاستصدار قرار بهما من رئاسة الوزراء فإنه يجب التعامل مع الهيئة والبورصة كمؤسسات بعيداً عن الأشخاص لأن تلك المؤسسات تعرضت للتدمير والتجريف طيلة السنوات الماضية بما يكفي.