بقلم: ليونيد بيرشيديسكى
يستعد البنك المركزى الأوروبى لتنفيذ برنامج التيسير الكمى رداً على خطر الانكماش، متجاهلاً الحجج الألمانية بأن شراء السندات الحكومية تخلق مخاطر أخلاقية فى بلاد مثقلة بالديون، ولكن تباطؤ ارتفاع الأسعار لا يعتبر السبب الرئيسى فى معاناة منطقة اليورو والتيسير الكمى لن يحل المشاكل الأعمق فى المنطقة.
ومن السهل أن تعرف السبب وراء قلق العديد من الاقتصاديين حيال الانكماش فى أوروبا، وأفاد تقرير أصدرته مؤخراً شركة «بروجل» للدراسات فى بروكسل، أن %30 من سلة التضخم الأوروبى مصدره منطقة اليورو، ولم يأخذ التقرير فى اعتباره الانخفاض الحاد فى أسعار البترول، ومن هنا انطلقت المقارنات مع اليابان وتحذيرات بأن أوروبا على مشارف « العقد المفقود».
ومع ذلك، فكل ما لدينا من أدلة يشير إلى أنه لا توجد علاقة واضحة بين انخفاض الأسعار وتراجع النمو فى أوروبا، إذ أفادت بيانات هيئة الإحصاء الأوروبى «يوروستات» للربعين الثانى والثالث من العام الجاري، بأن ثمانى دول فى الاتحاد الأوروبي، هى بلجيكا وبلغاريا واليونان وفرنسا وهنجاريا وهولندا، شهدوا انكماشاً اقتصادياً، حيث كان مؤشر أسعار المستهلك فى هذه الدول أكثر انخفاضاً فى شهر سبتمبر عن شهر مارس، ولم يتراجع النمو فى أى من هذه الدول عدا فى اليونان.
وفى الواقع، أوضحت بيانات الناتج المحلى الإجمالى التى أصدرتها «يوروستات»، أن متوسط معدل النمو فى هذه الدول خلال الربعين الثانى والثالث كان أعلى من نمو منطقة اليورو ككل، إذ بلغ %1.3 مقابل %0.5.
ويقول الاقتصاديون إن الانكماش يعد خطيراً، لأن الأسعار عندما تبدأ فى الانخفاض، يؤجل المستهلكون مشترياتهم ويتوقفوا عن الاقتراض، لكن هذا الأمر لا ينطبق مع ما نشهده فى واقع الحياة، أو على الأقل فى أوروبا فى الوقت الراهن، إذ ارتفع الإنفاق الاستهلاكى فى دول الاتحاد الأوروبى التى شهدت انكماشاً خلال الربعين الثانى والثالث من عام 2014.
ويعتبر المستهلكون، ولاسيما الفقراء نسبياً، قد لا يكونون بالعقلانية التى يشير إليها الاقتصاديون، فعندما يستطيع المستهلك تحمل شراء العديد من الأشياء، يقومون بشرائها غير مكترثين بمؤشر أسعار المستهلك فى الشهر المقبل.
وثانى تنبؤات الاقتصاديون هو أن الشركات ستحد من استثماراتها عندما تتراجع الأسعار لأنهم يحققون أرباحاً أقل أو يتوقعون تراجعها، ولم ينطبق ذلك أيضاً على أوروبا فى منتصف العام الجاري، إذ أوضحت بيانات «يوروستات» أن تكوين رأس المال الثابت ازداد فى كل الدول المنكمشة عدا فرنسا، وهذا يعود إلى سبب واحد وهو أنه إذا كان الإنفاق الاستهلاكى آخذاً فى الارتفاع، فالشركات ليست فى حاجة إلى خفض خططها الاستثمارية.
وحتى إذا أغدق البنك المركزى الأوروبى منطقة اليورو بالنقدية لتعزيز الطلب، فالنمو الناجم عن ذلك لن يكون مستداماً، ذلك لأن السياسة النقدية المتشددة نسبياً ليست هى السبب فى تراجع أداء الدول الأوروبية مقارنة بالولايات المتحدة.
وتعد الاقتصادات الأوروبية الكبرى مثقلة بأنظمة الضمان الاجتماعى وأسواق العمل المقيدة بشدة، ففى ألمانيا، على سبيل المثال، فشل التجار فى إقناع الحكومة بالسماح لهم بفتح المحال أيام الأحد، ولايزال العمال فى أسبانيا، التى نجحت فى خفض تكاليف العمالة منذ أزمة الديون عام 2011، يحق لهم الحصول على 30 يوم إجازة سنوياً واثنى عشر يوماً عطلات رسمية مدفوعة الأجر، أى أكثر مما يأخذه الموظف فى الولايات المتحدة بعد عشرين عاماً من الخدمة المتفانية.
والتخلص من التكاليف والقيود الاجتماعية الإضافية، فى دول القلب فى منطقة اليورو، من شأنه أن يحفز النمو لمنافسة أمريكا، ولكن ذلك قد يكبد الحكومات أيضاً خسارة الانتخابات المقبلة، لذا اقترضت الحكومات لتغطية تلك التكاليف، والآن يدعم المركزى الأوروبى هذا النهج من خلال شراء بعض الديون، ومحاكاة سياسة الولايات المتحدة فى التيسير الكمي.
ولكن هذه ليست وسيلة علاج المشكلة الحقيقية، فإذا أرادت أوروبا مزيداً من النمو، فإنها تحتاج إلى محاكاة أمريكا فى تحملها المخاطر المالية بلا هوادة آملة فى الربح، وليس حيل السياسة النقدية، واذا رغبت أوروبا فى الحد من عدم المساواة، فهى فى حاجة إلى الاعتياد على معدلات النمو البطيئة باعتبارها ثمناً لتلك الأولوية السياسية.
إعداد: نهى مكرم
المصدر: وكالة بلومبيرج








