بقلم: كمال درويش، وزير اقتصاد تركى سابق
وجهت مجلة «ذا إيكونوميست» سؤالاً لصُناع السياسة مؤخراً «هل نفدت ذخيرتكم؟». ووصف الاقتصادى ستيفن روش، فى مقال له الشهر الماضى على موقع «بروجكت سينديكيت» خطوة البنوك المركزية، بما فى ذلك المركزى اليابانى والأوروبى والسويدى، بالتحول نحو أسعار الفائدة السلبية الحقيقية (والاسمية فى بعض الحالات) كمحاولة «غير مجدية» تمهد الطريق فحسب لـ«أزمة مقبلة».
وفى اجتماع مجموعة العشرين الشهر الماضي، وصف مارك كارني، محافظ البنك المركزى البريطاني، هذه السياسات بـ«لعبة لا فائز فيها بالأخير»، فهل نفدت الخيارات فعلاً أمام البنوك المركزية فى الاقتصادات الرئيسية المتقدمة؟
يبدو الأمر كذلك بالتأكيد، وتضخمت ميزانيات البنوك المركزية، ووصلت أسعار الفائدة الرسمية إلى الحدود الأدنى بالقرب من الصفر، ويبدو أن هناك الكثير من المياه الرخيصة، ولكن الأحصنة ترفض الشرب، وفى ظل عدم وجود علامات على التضخم، وضعف النمو وهشاشته، يتوقع الكثيرون تباطؤاً مزمناً فى النمو، وبعضهم يخشى وقوع ركود عالمى آخر.
ومع ذلك، لا يزال أمام صناع السياسة خيار وحيد آخر، وهو التحول إلى سياسة مالية أكثر «نقاءً»، يقومون من خلالها بتمويل الإنفاق الحكومى من خلال طبع الأموال، وسوف تتجاوز الأموال الجديدة القطاعات المالية والشركة، وتذهب مباشرة إلى أكثر الأحصنة عطشاً، وهم المستهلكون منخفضو الدخل.
ويمكن أن تذهب الأموال إليهم مباشرة، أو من خلال الاستثمار فى خلق الوظائف، والبنية التحتية المعززة للإنتاجية، وعند وضع قوة شرائية فى أيدى الأكثر حاجة لها، فسوف يساعد التمويل النقدى المباشر على تحسين الشمولية فى الاقتصادات التى تعانى الارتفاع السريع لعدم المساواة.
ويقترح الاقتصاديون اليساريون والوسطيون على حد سواء، حالياً، فكرة طبع الأموال، كما يؤيده، نوعاً ما، بعض «المتحفظين» الذين يدعمون المزيد من الإنفاق العام على البنية التحتية، ويريدون، أيضاً، تخفيض الضرائب، ويعارضون المزيد من الاقتراض.
وظهر مؤخراً العديد من المقترحات الراديكالية، ما يعكس الشعور بأهمية التحرك وخيبة الأمل الواسعة من تأثير السياسة النقدية الحالية، وبخلاف مناصرة رفع الحد الأدنى للأجور، ينادى البعض «بضريبة الدخل العكسية»، بحيث تفرض الحكومات على الشركات الخاصة زيادات فى الأجور تشمل جميع العاملين فيها، وهى خطوة من شأنها رفع الأسعار وهزيمة التوقعات الانكماشية.
وأنا أرحب بجميع المقترحات، نوعاً ما، فبالتأكيد سوف تختلف تفاصيل تطبيقهم وفق ظروف كل اقتصاد، فألمانيا على سبيل المثال فى وضع قوى يخولها بتطبيق ضريبة الدخل العكسية، بالنظر إلى فائضها الضخم فى الحساب الجاري، ولا شك أنها ستواجه عوائق سياسية كبيرة لتحقيق ذلك.
كما أن المزيد من الإنفاق على التعليم، وتحسين المهارات، والبنية التحتية، يكاد يكون بديهياً فى كل مكان تقريباً، وتطبيقه أكثر سهولة بالطبع من الناحية السياسية.
وهناك جانب آخر للتحدى لم يتم التأكيد عليه بما يكفى حتى الآن، رغم تحذيرات كارني، وروش وغيرهما، وهو أسعار الفائدة الصفرية أو السلبية، فعندما تصبح تلك المعدلات الصفرية شبه دائمة، فإنها تقلل من فاعلية تخصيص رؤوس الأموال وتمهد الطريق إلى نشوء الفقاعات، وانفجارها، وبالتالى الأزمات.
كما أنها تسهم فى تركيز الثروة فى أيدى فاحشى الثراء من خلال إلحاق الضرر بصغار المدخرين، وخلق فرص للاعبين الماليين الكبار للاستفادة من المدخرات بتكاليف حقيقية سلبية، وربما يبدو ما أقوله تقليدياً، ولكن من المرجح أن الاقتصاد العالمى سوف يستفيد أكثر من أسعار الفائدة الأعلى نسبياً.
ومع ذلك، لا يمكن تطبيق رفع الفائدة كسياسة منفردة، بل يجب أن يكون الرفع التدريجى ضمن استراتيجية مالية وتوزيعية أوسع يصاحبها زيادة فى الإنفاق على البنية التحتية وتحسين المهارات، بالإضافة إلى بعض سياسات الدخل المعتدلة التى تستخدم على سبيل المثال «الإقناع الأخلاقي».
ولكن إذا قررت البنوك المركزية الرئيسية رفع أسعار الفائدة فى نفس الوقت، فستلغى الآثار المترتبة على ذلك بعضها البعض، وبالتالى هناك حاجة لخطوة منسقة، وربما بزيادة متواضعة تتراوح من 25 إلى 30 نقطة أساس، ما سيكون له تأثير محايد فيما يتعلق بأسعار الصرف، والتنافسية على المدى القصير، حتى إذا تحركت الفائدة نحو المنطقة الإيجابية.
وإذا نجحت هذه المجهودات فسوف يلحقها بالأخير المزيد من الزيادات الصغيرة فى الفائدة، ما سيخلق مساحة لاستخدام المزيد من أدوات السياسة النقدية التقليدية فى المستقبل.
ويعتمد النجاح، أيضاً، على السعى نحو توسع مالى فى نفس الوقت عالمياً، بحيث تقدر مجهودات كل دولة وفق مساحتها المالية ووضع حسابها الجاري، وهذا التوسع من شأنه أن يمول برنامجاً عالمياً للاستثمار فى البنية التحتية المادية والبشرية، والتركيز على اثنين من أكبر التحديات فى وقتنا هذا: الطاقة النظيفة، والمهارات المطلوبة فى العصر الرقمي.
وقد تدعم حزمة السياسة المنسقة والمطبقة فى الوقت المناسب النمو العالمي، وتحسن تخصيص رأس المال، وتعزز المساواة فى توزيع الدخل، وتقلل مخاطر الفقاعات.
وحان الوقت لصُناع السياسة أن يدركوا أن القوامة الاقتصادية والتحركات المنفردة فشلتا فشلاً ذريعاً، وأن التعاون الدولى المبتكر فى السياسة لم يصبح رفاهية، وإنما ضرورة، مثلما هو الحال اليوم.
المصدر: موقع بروجكت سينديكيت







