بقلم : أ.د خالد سمير
نصيب المواطن الواحد من العلاج و الصحة تراجع ليصل فى العام المالى الجديد 551 جنيهاً للفرد الواحد سنوياً
يبلغ متوسط عدد الأسِّرة لكل 1000 مواطن عالمياً 5 أسرة بينما بمصر نجده أقل من 2
تنتعش الصناعات من خلال مركز ثقل يقطرها ويدفعها إلى الأمام، ولكل صناعة قاطرة تجرها إلى الأمام، تجرها إلى الرقى، وقاطرة صناعة الصحة تكمن فى التأمين الصحى الشامل والتشريعات الحاكمة التى يمكن أن تحول صناعة الصحة الى الصناعة الواعدة المطورة لأجزاء مهمة من الاقتصاد المصرى الحالى والمستقبلى.
من المؤكد، أن الجميع ينتظر بشغف الانتهاء من أقرار قانون التأمين الشامل وأهميته تتزايد كلما تقلصت الطبقة المتوسطة وكلما زادت نسبة الطبقة المحدودة.
أذكركم بحيثيات الحكم الذى ألغى فكرة الشركة القابضة للرعاية الصحية 2008، والذى وجة فكر صناع القرار إلى نقطة جوهرية يجب أن نلتزم بها جميعاً وإلا ستصاب كل القرارات بعدم الدستورية.
ولقد أقرت حيثيات الحكم بنشاط القطاع الخاص ولم تمنعه ولكنها أسست لوضع لا يسمح فية باستغلال المرض بهدف التربح ويبقى الأهم هو كيفية التطبيق بتداول الخدمات الصحية مثلها مثل أى خدمة معرضة لمتطلبات السوق عرضاً وطلباً ومقدميها يجب أن يبحثوا عن الربح (مثلهم مثل كل الخدمات الأخرى) لتظل تلك الصناعة قائمة ومستمرة ومتطورة.
وقبل الخوض بالتعليق التفصيلى على مقترح قانون التأمين الصحى الاجتماعى الشامل، أحب ان نسرد بعض التحديات الاقتصادية التى تواجه مصر ذات العلاقة المباشرة بهذا الموضوع، والمتمثلة فى العجز المزدوج فى الموازنة العامة وميزان المدفوعات (مثل الفجوة الغذائية وارتفاع الدين وتدهور الخدمات وتراجع الدخل والزيادة السكانية المرعبة)، إذ بلغ عجز الموازنة المتوقع 245 مليار جنيه خلال موازنة 2015-2016، وعلاوة على ما تتطلبه الزيادة السكانية من ضغوط وتكالب على باقى المرافق والخدمات كالكهرباء والمياه والصرف الصحى والطرق وجميعها أعباء ترجمت فى زيادة معدل الدينين المحلى والخارجى وانخفاض معدلات النمو والناتج والدخل القومى، ومن ثم الارتفاع بحجم الاستثمارات المباشرة المطلوب تدفقه على البلاد.
وبالرغم من سعى الحكومة لوصول العجز إلى (245 ملياراً) بعد أن كان من المتوقع أن يصل إلى 295 مليار جنيه، إلا أن الحكومة اتخذت مجموعة من الإجراءات مثل ترشيد الدعم والإنفاق الحكومى، لتخفيض حجم العجز إلى المستهدف، وإن كان من المتوقع أن يزيد إلى 260 مليار جنيه، وتستهدف مصر أن يكون العجز فى حدود %10 من إجمالى الناتج القومى فى حين أنه حاليا فى حدود %14 من الناتج القومي، بالإضافة إلى العجز فى ميزان المدفوعات بسبب زيادة الاستيراد عن التصدير، مما يؤثر سلباً على الحصيلة الدولارية المتاحة لدى مصر ويساعد على ظاهرة التضخم.
أما أرقام العجز الاجتماعى المتمثلة فى الخدمات التى تقدمها الدولة من “صحة وتعليم”، فعلى الرغم من زيادة المخصصات المتاحة للتعليم والبحث العلمى والصحة طبقاً لاستحقاقات الدستور المصرى 2014، والتى بلغ حجم الإنفاق على الصحة فى حدود 52 مليار جنيه، إلا أنه مازالت هناك مشاكل فى هذه القطاعات ولم يستشعر المواطن تحسن الأداء فى هذه القطاعات الخدمية، ومن ثم يقع على الدولة عبء ثقيل للغاية لتحسين الخدمات المقدمة فى مجال الصحة والتعليم، وبالرغم من زيادة ميزانية وزارة الصحة بقيمة 12.9 مليار جنيه خلال العام المالى الجارى 2015-2016 لتصل بالموازنة الجديدة إلى نحو 46.4 مليار جنيه مقارنة بميزانية قطاع الصحة عام 2013-2014 والتى قدرت بنحو 33.5 مليار جنيه، إلا أن نصيب المواطن الواحد من العلاج والصحة تراجع ليصل فى العام المالى الجديد 551 جنيهاً للفرد الواحد سنوياً.
بلغ الإنفاق على خدمات الصحة حوالى 42.4 مليار جنيه (%5.4 من إجمالى إنفاق الموازنة)، مقابل 33.5 مليار جنيه فى الموازنة المعدلة لعام 2014-2015، ويطالب الدستور المصرى الدولة بزيادة الإنفاق على الصحة والتعليم بصورة كبيرة خلال الثلاث سنوات القادمة، وهو ما بدأت الدولة مراعاته عن طريق برنامج الإصلاح الاقتصادى لتوليد موارد تكفى لهذه الزيادات.
يصل متوسط الأنفاق الصحى اليومى للمواطن أقل من 2 جنيه مصرى يومياً، بينما الرقم بالدول المحيطة بنا أكبر من 285 جنيهاً، ويبلغ متوسط عدد الأسرة بالنسبة لكل 1000 مواطن عالمياً 5 أسرة بينما بمصر نجده أقل من 2.. التحديات رهيبة وتحتاج لحلول غير تقليدية.
بعض من تلك الأرقام تنقصها جودة الرقم المتمثل فى التحليل الدقيق لمعنى الرقم، فعدد الأسرة مرتبط بجودة الخدمة المرتبطة بها من أشعة وتحاليل وعناية مركزة ومستوى الأطباء الاستشاريين والتمريض وخلافه، فالأرقام لا معنى لها إلا لو تم مقارنتها بمثيلاتها بدول ذات جودة عالية ولتفسير ذلك بدقة أكثر، تجد مركز مصر بالتصنيف العالمى للخدمات الصحية مساوية لماليزيا وهو ما يدل على أن الأرقام ينقصها التدقيق وينقصها ما يسمى الحوكمة الطبية أو السريرية. ورقم جنيه ونصف يومياً يعد من الأرقام الهزيلة والمعبرة بالفعل عن المستوى المتدنى للخدمات الصحية بالمستشفيات الحكومية.
عجز الموازنة وزيادة الإنفاق الصحى ترسم السياسات الصحية، وعلى رأسها القانون المقترح للتأمين الطبى، بعيداً عن قراءة عجز الموازنة يعد خطئاً استراتيجياً فادحاً، حيث ترغب الدولة فى زيادة المصروف على القطاع الصحى ولكنها تعجز عن ذلك فى أرض الواقع وتعتمد على التقشف فى مشروع الموازنة الجديد.
وقبل التسليم لذلك النهج الاقتصادى التقليدى لمعالجة الأزمة المالية للدولة، الذى يؤدى إلى زيادة العبء على المواطنين فى معيشتهم، يجب البحث عن وسائل أخرى غير تقليدية ومبتكرة لتحفيز الاستثمار فى المجال الصحى وجعله قطاع جاذب للاستثمار وللعملة الصعبة.
من الضرورى أن نجد خطة لمواجهة الأزمة المالية والاقتصادية تعى جيداً الأثر الاجتماعى والاقتصادى والسياسى لتلك الإجراءات على جميع قطاعات المواطنين، بداية من التضخم ورفع تكلفة المعيشة وصعوبة الوصول للإحتياجات اليومية، إلى زيادة وتيرة المطالبات العمالية يوماً بعد يوم.
لا يجب أن يتحمل المواطنين الأكثر احتياجاً أعباء تلك السياسات، وإذا كانت الحكومة قد نجحت بالفعل فى إعادة هيكلة نظام الدعم (جزء منه) بحيث تضمن وصوله لمستحقيه بدلاً من إهداره، فهل للحكومة خطة واضحة لكيفية إصلاح صناعة الصحة، بمدخلات وأهداف يمكن القياس عليها؟ أليس ذلك هدف يستحق نفس الاهتمام والحسم الذى تم تكريسهما لتخفيض الدعم وعجز الموازنة ومواجهة الإرهاب؟.
لا يجب أن نتوقع إصلاحاً لصناعة الصحة بعيداً عن منظور الإصلاح العام، بل يجب أن يكون لنا منظور شامل متكامل، حيث توجه مخصصات الصحة والتعليم والبيئة وجزء من المصروفات العامة معاً لتحقيق الغاية الأساسية وهى تحسين الحياة اليومية للمواطن فكل ما سبق يصب دائماً فى تحسين كل القطاعات، خاصة الصحة العامة، فإصلاح التعليم مثلاً هو البنية الأولى لإصلاح الصحة (Human capital الثروة البشرية) وإتاحة مياة الشرب النظيفة لكل المواطنين أفضل ألف مرة من مضاعفة دعم الدواء.
الأسبوع القادم سنتطرق تفصيلياً للقانون المقترح للتأمين الصحى الاجتماعى الشامل كجزء من الحوار المجتمعى البناء.