مما لا شك فيه ان انخفاض سعر الدولار خلال العشرة أيام الماضية اكثر من 15% امام الجنيه خطوة جيدة ومبشرة منذ تعويم العملة فى نوفمبر 2016 ووصولها الى مستويات قاربت 19 جنيها مصريا وهو مؤشر ايضا لانخفاض التضخم والذى وصل إلى 29% بنهاية يناير الماضى وهو أعلى مستوى له منذ عقود.
وبالرغم من هذه المبشرات إلا اننا لابد ونحن نتابع هذه الانكسارات المتتالية للعملة الأمريكية أمام الجنيه ان نسأل أنفسنا سؤالين مهمين:
أولا: ما هى أسباب انخفاض العملة الأمريكية بهذه الصورة وفى هذا التوقيت؟
وثانيا: كيف يمكن الحفاظ على قوة الجنيه أمام الدولار فى الأجل الطويل حفاظا على استقرار السوق والاسعار حيث ان هذا التذبذب فى سعر العملة وبالرغم من انه نتيجة طبيعية للتعويم يؤدى الى مشاكل كبيرة فى السوق لعدم قدرة المنتج على تحديد اسعار المنتجات لفترة مقبولة مما يولد سياسات خاطئة تحدث بالفعل من حبس المنتجات وتخزينها توقعا لارتفاع الاسعار او الإحجام عن الشراء توقعا لانخفاض الأسعار؟
وقى الواقع ان انخفاض العملة الأمريكية خلال الفترة الماضية فى رأيى يرجع للأسباب الآتية:
اولا: انخفاض الاستيراد خلال الشهرين الماضيين كنتيجة مباشرة للانخفاض الطلب بعد وصول الأسعار الى معدلات غير مسبوقة وهو مؤشر قد يكون جيدا فى ظل ان كثيرا من استهلاك الأفراد فى مصر موجه لسلع ترفيهية وغير ضرورية فى الوقت الحالى مما يولد الضغط على سعر العملة هذا بجانب الإجازات السنوية الصينية والتى تمثل نسبة كبيرة من استيرادنا.
ثانيا: إصدار الحكومة سندات دولارية بمبلغ 4 مليارات دولار وذلك لسد عجز الموازنة العامة وهذه المبالغ يتم شراؤها من قبل البنك المركزى ومبادلاتها تحت حساب وزارة المالية بالجنيه المصرى مما يدعم من احتياطي العملة وهو مؤشر جيد ومعبر عن ثقة المؤسسات الدولية في الاقتصاد المصري.
ثالثا: ارتفاع تحويلات المصريين العاملين بالخارج بالتزامن مع عطلات نصف العام الدراسى بعد تحفيز انخفاض العملة لهم على زيادة التحويلات من خلال الجهاز المصرفى.
اما عن السؤال الثانى والمتعلق بكيفية الحفاظ بل والاستمرار فى ارتفاع قيمة الجنيه المصرى امام الدولار فيجب ان نقول ان قوة أى عملة ترجع فى الأساس لعوامل اقتصادية معروفة وثابتة وليست عوامل مؤقتة تتغير بسهولة خصوصا وان انخفاض سعر الجنيه لا يناسب اقتصادنا بالمرة كما كان يقال فى الشهور الماضية فى الصحف وقنوات السوشيال ميديا وعلى لسان بعض الخبراء من ان انخفاض سعر العملة له مزايا تصديرية كبيرة وهو غير صحيح بالمرة الا فى حالة واحدة فقط وهى عندما يكون فائض الميزات التجاري للدولة كبير نتيجة ان التصير اكبر بكثير من الاستيراد ومعظم مكونات المنتجات الخاصة بالدولة مصنعة محليا وعلى ذلك تقوم الدول بتخفيض عملتها حفاظا على المزايا التصديرية اما ان يكون اكثر من 80% من مدخلات المنتجات المصنعة مستوردة ناهيك عن استيراد باقى المنتجات بأكملها من الخارج فإن انخفاض العملة فى هذا الوضع له مزيا تضخمية فقط وليست تصديرية
بالرغم من اعتبار السياحة مصدر مهم جدا واساسيا من مصادر العملة الأجنبية لدينا لكن الاعتماد عليها لن يكون كافيا لاستقرار سعر العملة المصرية وارتفاعه بصورة ثابتة لأن السياحة خدمة مرتبطة بعدة عوامل أمنية وسياسية واخيرا ترويجية وتنظيمية والعوامل السياسية والأمنية هى عوامل غير ثابتة فى معظم دول العالم.
كما توقع بنك بلوتون للاستثمار فى تقريره نهاية الشهر الماضى عن الاقتصاد المصرى خلال الخمس سنوات القادمة ان يصل سعر الدولار الى 21 جنيها خلال عام 2018/2019 وذلك خلال الدورة الرابعة من تحولات القدرة الشرائية فى الأربعة عقود السابقة على حد قول البنك.
ومن كل ما سبق نجد ان انخفاض العملة الأمريكية واستقرار سعر الجنيه المصرى هو امر مرتقب من الجميع وكى يتحقق لابد من إجراءات فعالة قد تستغرق بعض الوقت الذى سوف يعانى فيه الجميع حتى نخرج من عنق الزجاجة هذا والمهم ان نبدأ وان نكمل ما بدأته الحكومة بالفعل بصبر وثبات في بعض الخطوات المكملة الآتية:
أولا: تغيير ثقافة الاستهلاك فى مصر وهى ثقافة استهلاكية واقتنائية لا مثيل لها فى العالم كله حتى ان رب الأسرة قد ينفق نصف دخله لاقتناء سلع غير ضرورية بالمرة ويعجز عن تلبية مطالب اخرى تنموية كالتعليم والصحة وخلافه وهذا كله يزيد من اعباء الحكومة لتوفير الموارد الدولارية ومن ثم زيادة الاسعار والتضخم وسعر العملة. ففى الوقت الذى تناشد فيه اليابان المواطنين لديها على الإنفاق لزيادة معدل النمو وصول اسعار الفائدة لديها بالسالب نقوم نحن بالعكس تماما وهو الأمر الذى لا تستطيع الحكومة وحدها انجازه حيث يتطلب تكاتف الجميع لتغيير هذه الثقافة.
ثانيا: حل مشكلات المصانع المتعثرة والمغلقة منذ سنوات والتى لديها الرغبة فعليا فى الاستمرار وفقا لمتطلبات الوضع الراهن ومساعدة المستثمرين الجدد على بدء نشاطهم دون معوقات بيروقراطية لا وقت لها الآن وهذا هو سبيل التنمية الحقيقية والمستدامة فمن غير المعقول ان يستمر صدور قانون الاستثمار الجديد كل هذا الوقت ويتعاقب عليه ثلاث وزارات دون تفعيل فيجب ان نولى اهتمامنا اكثر بالتصنيع وزيادة نسبة الجزء المحلى فى المنتج النهائى فكثيرا من التجار يستسهلون استيراد المنتجات بدلا من تصنيع مكوناتها لعدم الرغبة منهم على تجمل اعباء المصانع بالرغم من ان الاستثمار الحقيقى والثابت فى التصنيع وليس فى التجارة وقد بدأت الدولة بالفعل فى اعطاء استيراد المواد الخام للمصانع الأولوية فى فتح الاعتمادات وتدبير العملة وفتح سقف الايداع لها.
ثالثا: الرقابةالمشددة على تبادل العملة الأجنبية خارج المنظومة المصرفية والذى مازال موجودا بكثرة، حيث نجد ان بعض عمليات التصدير ما زالت لا تتم من خلال الجهاز المصرفى كعمليات الاستيراد وهو اجراء سهل تنفيذه من خلال البنوك بالتنسيق مع الجهات المعنية عن طريق تعهد المصدر قبل تصدير مستندات الشحن من البنك بأن ترد حصائل التصدير الى نفس البنك المصدر للمستندات واخطار بنك المستورد بذلك ومتابعة تلك العملية خلال فترة زمنية محددة.
رابعا: القضاء على الفساد نهائيا بمسمياته المختلفة كالرشوة والعمولة والوساطة والذى بدأت الحكومة من خلال هيئة الرقابة الإدارية باتخاذ خطوات حاسمة فى هذا المجال حيث ان الفساد وبشكل غير مباشر يزيد من تكلفة المنتج النهائى خلال مراحل البيع المختلفة والتالى زيادة الأسعار وعدم القدرة على المنافسة خارجيا.
كما اننا لابد من السعى لتكملة الإجراءات الخاصة بالسماح بمبادلة اليوان والجنيه داخل الأنظمة المصرفية لكل من مصر والصين بعد موافقة صندوق النقد الدولى على ضم اليوان كعملة اساسية ضمن سلة العملات المعمول بها بعد استيفائها جميع الشروط والتى سوف توفر وفقا للإحصائيات اكثر من 8 مليارات دولار وخصوصا بعد التنبؤات بانخفاض سعر الليوان في المرحلة القادمة فى ظل الاضطرابات بين الصين وامريكا في الآونة الأخيرة.
دكتوراه إدارة الأعمال –جامعة القاهرة