لو كانت الشخصية الأسطورية «على بابا» تعيش بيننا الآن، لكان قد شعر بضآلته بالمقارنة بأمير الفساد الملقب بـ«عنتيل الرشوة»، هو بالفعل يستحق هذا اللقب الساخر عن جدارة وتميز حيث لم يعرف تاريخ الفساد الوظيفى الحديث فى مصر فاسداً لديه هذا الحجم من الأموال السائلة والثروة التى تحصل عليها طوال سنوات طويلة من الكسب الحرام باستغلال منصبه.
أتحدث هنا عن الحادثة الشهيرة التى انتشرت فى وسائل الإعلام عن ضبط هيئة الرقابة الإدارية موظفاً إدارياً بمجلس الدولة مسئول عن التوريدات والمشتريات عقب تقاضيه رشوة كبرى، وذلك بناءً على إذن من نيابة أمن الدولة العليا.
وقد تم العثور على مبالغ مالية بعملات مصرية وأجنبية قدرت بـ24 مليون جنيه و4 ملايين دولار ومليونى يورو ومليون ريال سعودى ومشغولات ذهبية، وأن هذه الأموال كانت معبأة فى حقائب فى منزل المتهم، بالإضافة إلى العقارات والسيارات التى يمتلكها.
لقد قمت عمداً باختيار عنوان ساخر للمقالة، وقصدت بذلك أن المتهم ليس الشخص الوحيد فى سلسلة الفساد، وربما تكشف التحقيقات عن وجود العديد من الشركاء فى محيط عمله بمن فيهم الوسطاء، والأشخاص الذين يعملون كواجهة لإخفاء مصدر الأموال غير المشروعة، إلى جانب النظراء الذين يقدمون الرشوة من أجل الحصول على منافع بطريقة غير شرعية.
وللتعريف بمجلس الدولة، هو أحد الأعمدة الثلاثة التى تشكل السلطة القضائية فى مصر، وهى المحكمة الدستورية العليا، ومحكمة النقض، ومجلس الدولة (ويتمثل فى محكمة القضاء الإدارى – المحكمة الإدارية العليا).
وقد أنشئ عام 1946 على غرار مجلس الدولة الفرنسى، والقانون الحاكم له هو القانون رقم/47 لسنة 1972، ويختص المجلس بالفصل فى المنازعات الإدارية التى تنشأ بين الأفراد والجهات الحاكمة فى الدولة، ويقوم بإلغاء القرارات الصادرة من الحكومة، فضلاً عن التعويض عنها. ويمكن القول فى النهاية أن مجلس الدولة هو حصن الحقوق والحريات الذى يكبح جماح الجهات الإدارية إذا حادت عن جادة الصواب وصحيح حكم القانون.
أما عن شخصية «أمير الفساد»، فقد طالعتنا منذ أيام وسائل الاعلام أن المتهم قد عُيِّن فى مجلس الدولة منذ قرابة 25 عاماً بمؤهل متوسط، وتدرج فى الوظائف حتى أصبح مسئول التوريدات والمشتريات والتعاقدات بمجلس الدولة.
بيت القصيد فى هذا الحديث أننا أمام قضية فساد كبرى وفريدة من نوعها، ولكى أكون أكثر تحديداً، الفساد كما عرفته منظمة الشفافية الدولية هو «السلوك الذى يمارسه المسئولون فى القطاع العام أو القطاع الحكومى، سواء كانوا سياسيين أو موظفين مدنيين بهدف إثراء أنفسهم أو أقربائهم بصورة غير قانونية ومن خلال إساءة استخدام السلطة الممنوحة لهم».
وحتى لا أقع فرسية لمعلومات قد يشوبها الدقة، سوف أطرح بعض الأسئلة وأحاول الاجابة عليها بالاستلال من خلال المعلومات المتاحة للعامة.
• ما هى طبيعة المشتريات والتوريدات والمناقصات التى تتم لصالح مجلس الدولة بحكم طبيعة أعمالها؟
• هل استغل المسئول ومعاونيه من الفاسدين الثغرات الموجودة فى القانون فى التعاقد أو تسهيل التعاقد مع الموردين؟
• هل اللجنة المختصة بالمناقصات والمزايدات والمشتريات تتبع الاجراءات والتفويضات والصلاحيات المالية والادارية فى أعمالها ويتم ذلك بقدر كبير من الشفافية؟
• كم من الوقت يلزم لتكوين ثروة هائلة من الكسب غير المشروع كتلك المعنية فى هذه القضية؟
كل هذه الأسئلة وأكثر يجب أن يكون لها إجابة واضحة قبل التسرع وتكوين رأى يعتمد فقط على ما توفره وسائل الإعلام من معلومات، قد يغلب عليها شهوة تحقيق السبق الصحفى أو زيادة عدد القراء.
ولكنى سوف أجتهد فى الاجابة على بعض هذه الأسئلة مع حرصى على اتباع منهج المصداقية فى العرض والحيادية فى التحليل والموضوعية فى الاستنتاج.
أتوقع أن تكون طبيعة مشتريات مجلس الدولة فى أغلبها من التجهيزات المكتبية والأثاث والقرطاسية والحاسبات الشخصية وأجهزة الطباعة وغيرها اللازم لإدارة تجهيزات المحاكم والجهاز الإدارى المساند، فهى بذلك لا تتعامل فى توريدات بمبالغ كبيرة مقارنة بالجهات التى يتطلب عملها تجهيزات باهظة التكاليف.
ومن المعلوم أنالمشتريات الحكومية تخضع إلى قانون تنظيم المناقصات والمزايدات الصادر بالقانون رقم 89 لسنة 1998 واللائحة التنفيذية الصادرة بقرار وزير المالية رقم 1367 لسنة 1998، ولكن ينبغى أن يخضع هذا القانون لمراجعة شاملة لما شابه من قصور مما أدى الى حالات فساد فى الصفقات التجارية، إلى جانب تسرب المعلومات وعدم وجود عدالة فى فتح المظاريف المغلقة، بالإضافة إلى عدم مسايرته للمستجدات فى مجال التعاقدات والشراء الإلكترونى وغيرها من الأمور.
هكذا يبدو لى أن المسئول المتهم بالفساد ومعاونيه لا يفوتهم اتباع القانون، ولكن تفكيرهم الشيطانى هداهم إلى الالتفاف حول القانون واستغلال الثغرات بأسلوب يصعب معه اكتشاف الجريمة، ومن ناحية أخرى، ربما ساعدهم على تحقيق أهدافهم الإجرامية تراخى فاعلية الرقابة، وإلا كانوا قد تم كشفهم منذ سنوات.
أما عن حجم الثروة التى تم ضبطها، فمن الصعب العثور على تقدير يستقيم مع المنطق السليم فى على حجم المعاملات التى نتج عنها هذا الحجم الهائل من الأموال المضبوطة والتى تقدر بنحو 150 مليون جنيه. فإذا فرضنا أن نسبة الرشوة تكون فى حدود تتراوح بين 5% و10% من قيمة المعاملات، فان إجمالى حجم الفساد سيكون فى حدود عدة مليارات من الجنيهات، ياللهول.. يا له من فساد يشيب له الولدان!
ألم يلفت نظر الجهات الرقابية عبر السنوات الطوال من الفساد ثمّة خيط يقود الى الاشتباه فى سلسلة الفساد العميق طوال فترة تربو عن عشرين عاماً؟ بالقطع المسئول الفاسد ذكى، ولكنى افترض أن الدولة بأجهزتها الرقابية كان يجب أن يكون لديها من هم شديدى الفطنة الذكاء لضبط حيتان الفساد العابثين فساداً فى أجهزة الدولة.
وفى النهاية، أدعو الجميع لعدم التعجل فى استنتاج الحقائق والانتظار إلى انتهاء التحقيق، وفى الوقت ذاته، أدعو الجهات المختصة إلى مراجعة القانون حتى يتم معالجة الثغرات ووقف نزيف إهدار المال العام.