أصبحنا فى زمن كثيراً ما يعلو صوت الفوضى على صوت العقل، ويصبح صوت البلطجة والعشوائية مصحوباً بالتراخى والفساد، أنشودة يشدوا بها أصحاب الباطل لكى يحققوا أهدافهم، أتحدث هنا عن ظاهرة مؤسفة جسدتها الأحداث الأخيرة التى شهدها حى «الأسمرات» الذى يقطنه سكان عدد من المناطق العشوائية فى محافظة القاهرة بعد إجلائهم من مساكنهم إلى شقق مفروشة فى تجمع سكنى حضاري، وسوف أتطرق هنا إلى مسائل أخرى ذات صلة بالتراخى المعهود للأجهزة المسئولة وكيف تحولت «الأسمرات» إلى عشوائية فى ثوب جديد، وما هو المطلوب للتعامل مع مثل هذه الأزمات.
بادئ ذى بدء، العشوائيات هى مناطق سكنية غير منظمة بنيت فى الغالب بدون ترخيص، وتفتقر لأبسط مقومات الحياة الكريمة. فهى عبارة عن مجتمعات ومبانى ومناطق لا تتماشى مع النسيج العمرانى للمجتمعات التى تنمو بداخلها أو حولها، ومتعارضة مع الاتجاهات الطبيعية للنمو والامتداد، وهى مخالفة للقوانين المنظمة للعمران، فهذه المناطق يقوم بتخطيطها وتشيدها الأهالى بأنفسهم على الأراضى الزراعية والصحراوية أو أراضى الدولة، وغالباً ما تكون هذه الأراضى على أطراف المدينة، وهى غير مخططة وغير خاضعة للتنظيم ولا يسمح بالبناء عليها، ومنها يقع فى مناطق غير آمنة مثل المناطق المعرضة لانزلاق الكتل الصخرية والسيول، أو لحوادث السكة الحديد.
وبحسب بيانات الجهاز المركزى للتعبئة العامة والإحصاء، يبلغ إجمالى المناطق العشوائية فى الجمهورية نحو 160.8 ألف فدان حيث تمثل نسبة العشوائيات نحو 39% من إجمإلى الكتلة العمرانية للجمهورية، وتنتشر فى 226 مدينة. تحتل محافظة الإسكندرية المركز الأول من حيث انتشار العشوائيات وتأتى محافظة القاهرة فى المركز الثانى يليها محافظة الجيزة. بينما تبلغ المناطق العشوائية غير الآمنة نحو 351 منطقة.
وبالرجوع إلى المحور الأساسى للمقال، تظاهر عدد من أهالى حى الاسمرات أمام مبنى الحى للمطالبة بتخفيض قيمة الايجار الشهرى لمنازلهم من 300 جنيه إلى 100 جنيه أسوة بأهالى مناطق اخرى كالدويقة وماسبيرو وبدر، وتظلموا من أن محافظة القاهرة لم تحرر لهم عقود إيجار، فسكنوا تلك المنازل بدون أوراق رسمية، ويتم تحصيل الايجار بايصالات من قبل حى «الاسمرات». ثم فوجئ الأهالى بخطابات تنذر بطردهم لعدم سداد قيمة ايجار الوحدات السكنية لعدة أشهر، حيث تبين لاحقاً أن تلك الإنذارات قد تم إصدارها بالخطأ – أو هكذا يدعى المسئولون للتنصل من خطأهم وعدم تقديرهم للعواقب التى قد تنجم جراء بيروقراطية وضيق أفق صغار الموظفين فى المحليات. والمؤسف أن أحد أعضاء مجلس النواب قد قام بتحريض أهالى حى «الأسمرات» على عدم دفع القيمة الإيجارية للوحدات السكنية، وتقدم بطلب لتخفيضها!
إلى هنا تبدو الأمور أكثر وضوحاً، تحولت ساحات حى الأسمرات إلى أسواق عشوائية لا تختلف عن سائر الأسواق العشوائية فى أنحاء الجمهورية، يعرض فيها كافة البضائع من خضر وطيور حية وأدوات منزل وملابس وخلافه، وفى ضوء الفساد والتراخى المعهود فى المحليات، يتم تأسيس عشوائية جديدة تحت أنف المسئولين، فبدلاً من تحقيق هدف نقل أهالى العشوائيات إلى مجتمعات نظيفة تتمتع ببيئة نظيفة ومرافق تمنحهم قدراً من الرفاهية التى حرموا منها فى الماضي، يجرى العمل على قدم وساق لتخريب الأحياء الجديدة بأيدى السكان الجدد وبمباركة المحليات. والغريب فى الموضوع أن السكان يعرفون مسبقاً أنهم سيدفعون إيجاراً شهرياً مقابل الوحدات السكنية، ومع ذلك تنصل عدد منهم من هذا الالتزام!
من المسئول عن الأزمة الراهنة التى تنذر بتكرارها فى الأحياء الأخرى التى تستقبل سكان المناطق العشوائية؟ لا أعفى السكان الجدد من تحمل المسئولية. فهم يرون أن الدولة يجب أن تتكفل بهم بالكامل دون أن يتحملوا القدر اليسير من الأعباء سواء مالية، أو الالتزام بالقواعد التى تنظم العيش فى الأحياء التى انتقلوا إليها. ولا أعفى الحكومة من مسئوليتها نحو الاهتمام بالسكان الجدد، والتعامل معهم من منطلق أنهم مواطنون لهم حقوق وعليهم واجبات. فالأجدر أن تكثف الجهات المسئولة جهودها نحو ادماجهم فى المجتمع الجديد، وتغيير ثقافتهم العشوائية التى تربوا عليها، والارتقاء بهم لجعلهم يشعرون أن المنازل التى يعيشون فيها هى خاصة بهم، ويجب عليهم الحفاظ على نظافة المبانى والمرافق. أما بالنسبة لموظفى المحليات، فأنا أدعوهم للقيام بعملهم بشكل صحيح والتوقف عن إغماض أعينهم على الأخطاء، وإزالة جميع أنواع المخالفات دون استثناء أو تراخي.
كلمة أخيرة أسوقها إلى المسئولين. مع كل الاحترام الواجب لسكان حى «الأسمرات»، يجب تطبيق القانون بشكل ثابت وحازم لمواجهة مظاهر الفوضى والخروج عن القانون، والا سيعلو صوت الفوضى وتكون سابقة تتكرر فى أحياء أخرى.
