منذ عدة أيام أطلقت إحدى الجمعيات المهنية رفيعة المستوى عالمياً استبياناً حول مدى أهمية تطبيق معدلات فائدة سلبية لتحفيز الاقتصاد عالمياً؛ حيث يطبق 24 بنكاً مركزياً معدلات فائدة سلبية على الودائع فى البنوك التجارية فى دول جميعها أوروبية باستثناء اليابان، وبينها 20 دولة تطبق فائدة صفرية، و4 دول تطبق فائدة سالبة (أقل من الصفر)، وتلجأ الدول إلى تطبيق الفائدة الصفرية أو السالبة حال تعرض الاقتصاد لمرحلة ركود اقتصادى أو معدلات نمو اقتصادى ضعيفة، حتى تضطر المودعين لسحب أموالهم أو جزء منها وضخها فى الاقتصاد كون ودائعه فى البنك ستقل، لأن البنك سيأخذ عليها فائدة بدلاً من أن يعطى العميل، وكذلك تشجع الفائدة المنخفضة بشكل عام الأفراد والشركات على الاقتراض لزيادة استثماراتهم.
عرفت الفائدة السالبة للمرة الأولى عام 1890 من قبل «سيلفيو جيزيل»، وهو رجل أعمال ألمانى، الذى كان مشرّعاً مهتماً بالتمويل فى جمهورية بافاريا، واعتبرت أفكاره بعد ذلك حلاً ممكناً للكساد العظيم، وحاز على ثناء ومدح الاقتصادى «جون ماينارد كينز».
ويعتقد بعض المعلقين والمحللين، أن معدلات الفائدة السالبة هى أداة لفرض رسوم على الناس نظير إبقاء أموالهم فى أمان، وهذا الأمر ليس بجديد، لكن سبب الحديث عنه أن تكلفة هذا الأمان لم تعد مخفية بعوامل أخرى كانت تستخدم كحجة لرفع الفائدة، مثل النمو القوى فى الإنتاجية والسكان والأسعار.
ووفقاً لتقرير حديث الـ»الاقتصادية»، فإنه يؤدى زيادة الاقتراض وسحب جزء من الودائع من البنوك إلى استثمارها فى الاقتصاد وبالتالى دوران عجلة الإنتاج وزيادة الاستثمارات والنشاط الاقتصادى، فيرتفع النمو الاقتصادى كنتيجة نهائية وهو ما يؤدى بدوره إلى توفير وظائف وخفض معدلات البطالة ومن الملاحظ أن جميع الدول المطبقة للفائدة الصفرية هى دول أوروبية تعانى ركوداً فى النمو الاقتصادى ومعدلات تضخم منخفضة أو سالبة، بالتالى لجأت بنوكها المركزية إلى الفائدة الصفرية لدعم الإقراض لدفع معدلات النمو، وزيادة التضخم لمعدلات مفيدة اقتصادياً، فإنه فى حالات الانكماش الاقتصادى وانكماش التضخم (الأسعار)، يقوم الأفراد والشركات بتكديس الأموال فى البنوك عوضاً عن الإنفاق والاستثمار، وهنا تلجأ بنوك مركزية إلى خفض الفائدة على ودائع البنوك لديها إلى ما دون الصفر، لدفع هذه البنوك لإقراض هذه الأموال للأفراد والشركات ما يترتب عليه دفع عجلة الإنفاق فترتفع الأسعار (التضخم) لمستويات مفيدة اقتصادياً، وكذلك يزداد الاستثمار فينتعش الاقتصاد بشكل عام، كما أن أسعار الفائدة السلبية تقوم بتخفيض سعر العملة وهو ما يعطى ميزة سعرية تنافسية للمصدرين فى الأسواق الأجنبية.
ووفقاً لخبراء عالميين، فإن سياسات المصارف المركزية التوسعية، لاسيما المركزى الأوروبى، لإبعاد شبح الركود الاقتصادى عن طريق ضخ كميّات ضخمة من السيولة النقدية فى الأسواق المالية، كان لها الدور الأبرز فى تراجع أسعار فائدة أذون الخزانة.
تلك التعليقات كانت جزء من كل يشهده واقع الاقتصاد العالمى الجديد تحت عنوان «الديون العالمية سالبة العائد»، حيث ارتفعت الديون سالبة العائد حول العالم إلى مستوى قياسى مع تدافع المستثمرين نحو الأصول الآمنة، بعد انقلاب منحنى العائد لسندات الحكومة الأمريكية، مما أثار مخاوف بشأن الركود وبلغت القيمة السوقية لمؤشر «بلومبيرج باركليز للديون العالمية سالبة العائد» 16 تريليون دولار – فمعدلات الفائدة السالبة منتشرة فى اليابان ومنطقة اليورو، والتوقعات تتزايد بأن الفيدرالى سيواصل خفض الفائدة الأمريكية هذا العام، الأمر الذى عزز من حجم السندات سالبة العائد إلى ما حجمه %27 من سوق السندات العالمى.
وبحسب تقرير لـ«بزنس ويك» لم يعد على الناس جنى مقابل كبير (فائدة مرتفعة) لتشجيعهم على الادخار، بل ويقبلون فى بعض الحالات فائدة سالبة، أى أنهم يستردون قيمة استثماراتهم ناقصة عند تاريخ الاستحقاق فأسعار الفائدة السالبة ظاهرة جديدة ولايزال هناك تضارب كبير حول أسبابها، ويميل رئيس مجلس الاحتياطى الفيدرالى السابق «آلان جرينسبان»، والمستشار الاقتصادى لدى «باسيفيك إنفستمنت مانجمنت»، «جواكيم فيلس» إلى احتمال تغير العادات الأساسية للناس بما يجعلهم يقدرون الاستهلاك فى المستقبل مثل أو أكثر من الحاضر وهناك نظرية أخرى تقول إنه بدلاً من التحلى بالصبر أكثر، فإن الناس يدخرون زيادة كإجراء احترازى، لأنهم خائفون من الأزمة المالية، كما يقول الاقتصادى فى جامعة أكسفورد «أندريا فيريرو».
وبحسب تقرير لـ«فاينانشيال تايمز» ففى الوقت الذى يتوقع فيه الكثيرون تخفيض البنك المركزى الأوروبى أسعار الفائدة إلى النطاق السالب، قد تكون تجربة السويد (أول اقتصاد رئيسى يجرب معدلات فائدة دون الصفر) مفيدة، وفى حين أنها لم تؤد إلى أزمات فى القطاع المصرفى، كما حذر البعض، ليس من الواضح إذا كانت ناجحة، كانت هذه التجربة قصيرة الأجل، لكن بعدما تغلبت البلاد على الانكماش مرة أخرى بعد أزمة منطقة اليورو، دفع البنك معدل الاقتراض الرئيسى إلى ما دون الصفر مجدداً فى فبراير 2015، ليظل ضمن هذا النطاق منذ ذلك الحين.
ووفقاً لـ«فاينانشيال تايمز» فقبل عقدين من الزمان، كان أكثر من نصف سوق السندات العالم يحقق عائدات لا تقل عن %5، وفقًا لبيانات «آى سى إى داتا إندسيز»، لكن مشتريات البنوك المركزية وخفض أسعار الفائدة بعد الأزمة المالية أدى إلى تراجع هذه الحصة إلى %16 بعد عقد، صحيح أن حصة السندات التى تقدم عائداً يتجاوز %5 تراجعت كثيراً قبل 10 سنوات، لكن كان بمقدور المستثمرين إيجاد الكثير من الديون مرتفعة العائد، إنما اليوم تراجعت حصة هذه السندات من السوق العالمى إلى %3 فقط، وهى أدنى حصة على الإطلاق فى الواقع، أصبحت الديون ذات العائد المرتفع من الأنواع المهددة بالانقراض حقًا، إذ تبلغ حصة السندات التى يتجاوز عائدها %10 نحو %0.4 من حجم سوق الدخل الثابت العالمى، وفقًا لبيانات «آى سى إى».
ووفقاً للتقرير السابق فهناك طريقتان رئيسيتان للمستثمرين للتصدى لجفاف منابع العائد العالمى، وهى شراء سندات لها فترة استحقاق أطول أو ديون أكثر خطورة، لكن رغبة المستثمرين فى الحصول على ديون يبلغ أجلها عقوداً، تراجعت بشكل حاد أيضًا هذه التطورات تدفع العديد من المستثمرين نحو الخيار الأخير الوحيد، وهو المغامرة فى المناطق الأكثر خطورة فى سوق السندات، مثل الدول الهشة، والشركات المثقلة بالديون، والأدوات المالية الغريبة، وهى كلها أوراق مالية كانوا يتجنبونها عادة أو على الأقل يطالبون بعائد أعلى بكثير لشرائها، أن مطاردة المستثمرين للعائد وتحمل المخاطر المفرطة يشكل خطراً على الاستقرار المالى فى العالم، ما يُشعر المقترضين ذوى المخاطر المرتفعة بالسعادة، ومؤخراً باعت بنين وأوزبكستان سندات دولية للمرة الأولى.
يجعل النمو المتسارع للديون سالبة العائد بيئة السوق معادية لمعظم مستثمرى السندات، ومع ذلك فقد تمكنت بعض صناديق التحوط من إيجاد سبل لجنى الأرباح عبر هذه الأصول ذات العائدات دون الصفر، بحسب تقرير لـ»فاينانشيال تايمز» وإحدى أكثر الاستراتيجيات وضوحًا التى اتبعها مديرو الأصول كانت «القفز على الموجات الكبيرة»، فانخفاض العائدات يصحبه ارتفاع فى أسعار السندات، وكان بإمكان المستثمرين الذين تمسكوا بحيازاتهم مع هبوط العائد إلى ما دون الصفر، تحقيق أرباح جيدة فالنظر إلى السندات سالبة العائد قد يبدو مضللاً بعض الشيى، إذ يمكن لمديرى الصناديق خارج منطقة اليورو على سبيل المثال، الاستفادة من شراء الديون الحكومية ذات العائد السالب فى أوروبا كتعزيز لإجراءات تحوط العملة ذلك لأن هذه التحوطات تعتمد على المستويات النسبية لأسعار الفائدة قصيرة الأجل، وهى أعلى بكثير فى الولايات المتحدة مما هى عليه فى منطقة اليورو، وبذلك يكون المستثمرون الذين يمتلكون الدولار يدفعون ثمن تحوط فعال ضد العودة من اليورو إلى الدولار.
فى مصر فهناك اقتراحات بديلة الآن لتنويع محفظة الدين العام مثل استبدال الديون بسندات شبيهة بالأسهم، حيث تصدر حكومات سندات مرتبطة بالناتج المحلى الإجمالى على سبيل المثال فعندما يرتبط سداد الدين بالناتج المحلى الإجمالى الحقيقى، فإن الحكومات ستكون بمنأى عن ارتفاع نسبة الدين للناتج المحلى الإجمالى الذى يحدث أثناء فترات الركود، ويمكن أيضاً إصدار سندات «لا تعوض»، والتى تزيل مخاطر أزمة إعادة التمويل وتعد هذه الأفكار جيدة، ولكن يمكن تطبيقها فقط بالنسبة للسندات التى أصدرت حديثاً بعكس الالتزامات القديمة، وبالتالى، فإنها يمكن أن تجدى نفعاً على المدى الطويل.
يستدعى ذلك اتخاذ حزمة من الإجراءات المتكاملة لتعزيز قدرة السوق الثانوى لسندات الخزانة ومنها توسيع قاعدة المستثمرين، واستحداث آليات مثل بيع وإعادة شراء السندات، وتوحيد تسوية الأذون والسندات لتفعيل آليات تسليف الأوراق المالية الحكومية، والمحافظة على الإصدارات المنتظمة وخلق نقاط مرجعية فى كل من سوق الإصدار والتداول وكذلك توحيد نظام التسوية للأوراق المالية الحكومية لتعزيز سيولة السندات. حيث تساهم سيولة السوق الثانوى فى تخفيض تكلفة تلك الأوراق من خلال خفض عائد الإصدار، هذا بالإضافة إلى إعادة النظر فى نظام طرح العطاءات (Uniform vs. Competitive auctions) ونظام التداول بالسوق الثانوى.
بقلم: محسن عادل
خبير اقتصادى