لا يزال بإمكان السكان المسنين فى مدينة إينز الأمريكية بمقاطعة مارتن فى ولاية كنتاكى أن يتذكروا بوضوح اليوم الذى جاء فيه الرئيس الأمريكى إلى المدينة قبل 55 عاماً.
وفى صورة شهيرة تداولتها الصحف المحلية وقف الرئيس ليندون جونسون فى شرفة منزل الشاب توم فليتشر، وهو عامل أبيض بلا عمل يتعلم القليل من أطفاله الثمانية أطفال حيث أجرى معه حواراً مطولاً.
وفى خطبته التى ألقاها حينئذ أعلن الحرب على الفقر وقال جونسون: «لقد دعوت إلى حرب وطنية على الفقر، وهدفنا النصر التام».
صنع هذا الإعلان من صورة «فليتشر» ومقاطعة «مارتن» دون قصد رمزاً لمعركة الأمة بل إن غضب السكان المحليين تصاعد من رحلات الحج المتكررة من الصحفيين والمصورين إلى هذه المنطقة الفقيرة.
ولم تتغير القصة كثيراً واستمر فليتشر فقيراً على مدى عقود حتى وفاته عام 2004 وواصل أفراد عائلته الصراع مع الإدمان والسجن.
ماذا عن سائر مقاطعة مارتن؟ إلى اليوم هي فقيرة للغاية حيث يعيش 30% من سكانها تحت خط الفقر الرسمى «دخل يقل عن 2100 دولار لعائلة مكونة من أربعة أفراد ما يعادل 35 ألف جنيه مصرى تقريباً».
وبالنظر إلى حال المدينة فهى تعاني من بنية تحتية غير مطابقة للمواصفات فالطرق المؤدية إلى الجبال فى حالة حرجة مذهلة وكانت فى يوم من الأيام مستخدمة لنقل الفحم لكن الحركة عليها باتت الآن هادئة بسبب تصدعها إلى حد التموج ومشاكل التلوث بسبب تسرب أنابيب المياه تعنى أن بعض أجزاء المقاطعة بدون مياه جارية لعدة أيام.
وتشكو باربين وهى أحد السكان المتحمسين لإجراء إصلاحات أن المياه تصل إليهم باللون البرتقالى والأزرق وممزوجة بكتل ترابية مما جعلها هى وعائلتها لم يشربوا الماء من صنبور المنزل منذ عام 2000 فهى مناسبة فقط لغسل المراحيض على حد قولها.
عدوى العوز تتنقل بين المدن وتستوطن الضواحى
ويشاركها الشكوى كثير من السكان الذين لجأوا إلى جمع مياه الشرب من الينابيع المحلية أو إدخار مياه الأمطار فى أحواض التجديف المطاطية.
أين الحكومة؟ الفقر المستمر ليس بسبب عدم التدخل فقد أنفقت الحكومة الفيدرالية تريليونات الدولارات على مدى السنوات الـ55 الماضية ودعمت كثير من البرامج لكنها ما زالت تركز على مشاكل الماضى بنفس الأسلوب القديم حيث ورث الكبار الفقر والبطالة للأجيال التالية.
وتشير النتائج إلى أن أمريكا تقوم بعمل أسوأ من نظرائها فى مساعدة المحتاجين وفقاً لمقياس الفقر الرسمى الذى يكشف عن وجود 40 مليون أمريكى ضحايا للفقر فى عام 2017، أو 12% من السكان رغم انتقاد البعض للحد الأدنى لدخل الفرد فى الولايات المتحدة.
وبحسب البيانات فإن حوالى 18.5 مليون شخص غارقون فى فقر مدقع ويعتبر الأطفال هم الفئة العمرية الأكثر عرضة للفقر فهناك ما يقرب من 13 مليوناً أو 17.5% من جميع الأطفال الأمريكيين يعانون العوز.
وفى المقارنات الدولية، فإن هذا يجعل أمريكا غريبة بشكل حقيقى عما يعرفه الناس فعند تقييم الفقر وفقاً لبلدان أخرى من حيث نسبة الأسر التى تحقق أقل من 50% من متوسط الدخل القومى بعد الضرائب والتحويلات فهى من بين الأسوأ أداءاً فى نادى منظمة التعاون الاقتصادى والتنمية الذى يضم معظم الدول الغنية.
وعلى الرغم من ارتفاع مستوى الدخل فإن شبكة الأمان لا تقوم بنفس القدر من العمل كما تفعل فى أى مكان آخر وعلى مقياس الفقر النسبى لا يزال أكثر من 20% من الأطفال الأمريكيين فقراء بعد الحصول على الدعم الحكومى مقارنة بـ3.6% من الأطفال الفنلنديين.
وغالباً ما يؤدى فقر الأطفال إلى فقر البالغين بما يصاحبه من جميع مشكلاته مثل الأمراض النفسية والجريمة وضعف الإنتاجية حيث تقدر دراسة لعدد من الأكاديميات الوطنية للعلوم والهندسة والطب من 600 صفحة حول هذا الموضوع أن فقر الأطفال يكلف أمريكا ما بين 800 مليار دولار و1.1 تريليون دولار سنوياً بسبب ضياع الأرباح وزيادة فرص الإجرام وسوء الصحة.
ويناقش تقرير لمجلة «إيكونوميست» الإجابة على سؤال: كيف يمكن لواحدة من أغنى البلدان فى العالم أن تضم الكثير من الفقراء، وما الذى يمكن فعله حيال ذلك؟.
يأخذ التقرير فى الاعتبار انتقال عدوى الفقر جغرافياً من المدن إلى الضواحى ويدرس التأثير المستمر للعنصرية لكن هناك دور جيد يمكن أن يتطور للأعمال الخيرية ومؤسسات القطاع الخاص.
وبالنسبة لأولئك الذين يستخفون بتريليونات الدولارات التى تنفق على برامج شبكة الأمان كمسعى حسن النية فإن حالة مقاطعة «مارتن» تبدو حكاية تحذيرية واضحة ولمن يشيدون بدورها فكلاهما يمثلان صراع اليمين واليسار فى الحكم الأمريكى.
ويمكن الرجوع تاريخياً لذلك التصريح: «لقد خضنا حرباً على الفقر، وانتصر الفقر»، هذا التصريح للرئيس حينئذ رونالد ريجان جاء فى سياق الصراع السياسى فهو كحزب محافظ جمهورى يرى الفقر كمشكلة لا مفر منها ولابد من التدخل الحكومى والكثير من اليسار يعتبرها بشكل متزايد نتيجة توحش الرأسمالية.
والحقيقة أن التوصيف المتشائم وتبسيط الأزمة غير صحيح تماماً ففى الماضى وحتى الآن لا يلتزم أى طرف بحلول دقيقة وفقاً لمنهج عمله سواء كان تياراً ليبرالياً أو محافظاً.
وشدد اليسار فى الماضى على قدرة الحكومة على تحقيق التغيير مقابل عدم تدخل الدولة اقتناعاً منها للغاية بأن السوق الحرة سوف يجلب تلقائياً الرفاه مما جعل مؤسساتها تقدم القليل من التفكير الإبداعى.
لهذا السبب، أصبحت سياسات الفقر عالقة فأمريكا غارقة فى ممارسة لا تنتهى لفصل الفقراء المستحقين عن غير المستحقين بينما معاملة الفقراء كمسؤولين عن مأزقهم أمر قاس فهم ضحايا للهياكل الاجتماعية والظروف السيئة التى تسلبهم القوة والكرامة.
ويمكن للأشخاص ذوى العقلية المنصفة أن يجدوا أنفسهم فى أى مكان بينهما فتسوية الجدل حول المسئولية أمر مستحيل أيضاً إذا حاولنا إرضاء الأيديولوجيين الأكثر تزمتاً لكان الأفضل الاهتمام بمواجهة مصير شخص مدان بارتكاب جناية عنيفة – وهو اختيار جدير بالثناء – تنتظره سنوات من العقاب لكن طفولته فى حى فقير معزول مع القليل من الدعم من المدرسة أو الأسرة وهى ظروف سيئة الحظ من المحتمل أن تكون قد ساهمت فى هذا المصير.
2100 دولار خط الفقر الأمريكى لأسرة مكون من 4 أفراد
ويركز النقاش الحزبى على ما إذا كان يجب على البالغين فى سن العمل الذين يتلقون إعانات مالية تلقى المساعدات نقداً، ومع ذلك، فإن هؤلاء البالغين يمثلون أقلية من السكان الفقراء اليوم.
ويوجد عدد قليل منهم يبلغون عن البطالة أو عدم المشاركة الطوعية فى القوى العاملة ولا تمثل الرفاهية النقدية المباشرة للأمهات غير العاملات ساحة معركة للنقاش الدائر فى عهد بيل كلينتون سوى جزء صغير من شبكة الأمان مقارنة بالبرامج العينية مثل قسائم الطعام أو برنامج التأمين الصحى الحكومى للفقراء والمميزات الضريبية التى تزيد من أجور الفقراء العاملين.
وتشير البيانات إلى أن القنوات الرئيسية للنقد المباشر هى مدفوعات العجز والضمان الاجتماعى للمسنين والتى بحكم تعريفها لا تذهب إلى أشخاص يتمتعون بالكفاءة من حيث القدرة على العمل.
ويرى البعض استمرار وجود الفقر والحرمان فى أمريكا كسبب لتقليص شبكة الأمان، معتبرين أنها غير فعالة لكن الفقر مستمر اليوم ليس بسبب فشل الشبكة فالطريقة الصحيحة لتقييم نجاح برامج مكافحة الفقر هى عكسية فليس السؤال ما إذا كان الفقر مازال قائماً، ولكن السؤال إلى أى حد سيكون الوضع أسوأ من دون عمل حكومى.
الإجابة على هذا تزداد صعوبة بالطريقة الغامضة التى تقيس بها أمريكا الفقر حيث يعتمد المستوى الرسمى على الدخل قبل الضريبة متجاهلاً المساعدات من برامج شبكة الأمان والاختلافات فى نفقات المعيشة، مما يجعل التحسينات صعبة التأثير.
13.9 % نسبة المعوزين بين السكان
وعندما يتم استخدام أداة أفضل لقياس الفقر التكميلى والذى يراعى أوجه القصور هذه يصبح تأثير شبكة الأمان الموسعة واضحاً، ففى عام 1967 خفضت ضرائب شبكة النقل وتحويلات الفقراء وبالكاد تمكنوا من إنقاذ 26.4% من الأمريكيين كانوا فقراء و25% ظلوا فقراء، وفى نظرية الحساب العكسى بدون شبكة أمان ستكون نفس النسبة تقريباً من الأمريكيين 24.6%، فقيرة اليوم كما كانت قبل 50 عاماً.
ولكن بسبب برامج مكافحة الفقر الموسعة إلى حد كبير، مثل قسائم الطعام والائتمان الضريبى على الدخل المكتسب، الذى يزيد من أجور الأمريكيين ذوى الدخول المنخفضة، فإن 13.9% فقط من السكان فقراء بعد خصم الضرائب والتحويلات.
وكان كبار السن فى يوم من الأيام من بين أفقر الفئات ولولا المكافآت النقدية والصحية التى يوفرها الضمان الاجتماعى وبرنامج الرعاية الطبية لظل الأمر كذلك.
ويجسد شرق كنتاكى الطبيعة المتطورة للفقر فى أمريكا منذ إعلان جونسون حربه، مقارنة ببقية البلاد فلا يزال الفقر هناك مرتفعاً لكن من حيث القيمة المطلقة، انخفضت نسبة السكان الفقراء إلى النصف تقريياً منذ عام 1960.
وعندما قام جون كينيدى بحملة للرئاسة فى ولاية فرجينيا الغربية شعر بالرعب ليس من حالة الطرق بل من قبل الناس الذين يعانون الهزال لكن الجوع الدائم أكثر ندرة اليوم ومع ذلك ظهرت أمراض اجتماعية جديدة مثل السمنة والبطالة والإعاقة والإدمان.
1.1 تريليون دولار تكلفة سنوية لارتفاع نسبة الفقر بين الأطفال
كل مشكلة اجتماعية جديدة تتسبب فى مشكلات آخرى ويختلط خطأ الاختيار الفردى بسوء الهيكل الاجتماعى مما يخلق عقدة مزمنة يصعب على صناع السياسة فكها فمثلاً تطور الاقتصاد الوطنى إلى اقتصاد يدعم التعليم تاركاً وراءه العمال ذوى المهارات المنخفضة دون تدريب.
وأصبحت الأسر الفقيرة من جميع الأجناس غير مستقرة على نحو متزايد، ونتيجة لذلك ارتفعت معدلات عدم الزواج والولادات خارج نطاق الزوجية بين هؤلاء السكان ما أدى إلى العديد من الأسر التى تعولها الأم و يعيش 41% من الأطفال فى هذه الأسر تحت خط الفقر، ونما معدل تعاطى المخدرات وخاصة المواد الأفيونية بشكل كبير ما أدى إلى تحطيم الأسر أكثر وأكثر.
وتقول ديبى كروم، التى عاشت طوال حياتها تقريباً فى مقاطعة مارتن: أصبحت أمى فى الثانية والستين من العمر وكان لابن أخى الكبير وصديقته رضيع لكنهم كانوا مدمنين على المخدرات وبدون عمل بسبب عدم اجتياز اختبار المخدرات وصيحفة الحالة الجنائية.
وقضت كروم معظم عمرها فى خدمة المحتاجين لكن ليس جميع الأطفال محظوظين للغاية لتصل إليهم.
وينشر مكتب التحليل الاقتصادى بيانات مفصلة عن مصادر الدخل العامة والخاصة وفى بعض مقاطعات كنتاكى تصل التحويلات الفيدرالية من خلال قسائم الطعام والإعانات واستحقاقات الشيخوخة إلى نسبة 36% من إجمالى الدخل وبدونها، ستكون الأزمات مثل البطالة وإدمان المخدرات أسوأ بكثير، وغالباً ما تكون المستشفيات والمدارس والحكومة المحلية أكبر مزودى الوظائف المستقرة.
ويقدم برنامج Medicaid الذى تم توسيعه فى كنتاكى عبر برنامج «أوباما كير» فى عهد الرئيس السابق باراك أوباما مكافأت مقابل علاج تعاطى المخدرات فى أجزاء من أمريكا الأكثر تضرراً من وباء الأفيونيات.