اتأمل كل يوم ما اعتقدته لسنين حول مفهوم التحضر وكيف أظهرت هذه الأيام أننا كبشر غير متحضرين، بل ربما لا يوجد معنى أصلاً لمصطلح المجتمع المتحضر وأن الارتقاء بالنفس هو أكثر ما يمكن للإنسان بلوغه، أرى الآن وبعد ما أشاهده إمكانية وجود أفراد مرتقية بنفسها ولكن من ملابسات الكون أنه لا يمكن أن يوجد مجتمعات متحضرة بالمفهوم الذى تعلمناه.
وإثباتا لذلك، فالتحضر يكون نتيجة لنوعين من التطور المجتمعي، وهو إما أن يكون نتيجة للإسهام فى الفلسفة أو الفن أو الدين ومن ثم التجلى ليوصلنا إلى الرغبة فى احترام ومساعدة الآخر، والنوع الثانى هو ما قراءته فى كتاب «لريتشارد داوكنز» عام 1976 وعنوانه الجين الأنانى «selfish gene» ناقش فيه أن فكرة مساعدة الآخرين تتكون نتيجة إدراك عدم القدرة على العيش بمفردنا فى الحياة العادية أو فى مواجهة خطر ما؛ ولكنى أضيف أن ما ذكره «لريتشارد داوكنز» ينمو وينبت فى المجتمعات التى تعتمد على التكنولجيا والرأسمالية بشكل واضح وأما المجتمعات الآخرى ما زالت تتمتع قليلا بالنوع الأول من التجلى. وعموما خطورة الأفراد والمجتمعات التى أصيبت بجين الأنانية أنها تحاول أن تجاوز أى أزمة بذاتها وتصاب بالذعر فى البداية قبل إدراك حقيقة أنه لا طريقة لمجاوزة أى شىء دون الجماعة فيتفق سلوكها مع النوع الأول.
لا أشك لو لحظة أن هذا الفيروس سيغير ثقافتنا شعوبا وحكومات، بل أرى أنه غيرها بالفعل فلأول مرة -على الأقل فيما نعلمه عن التاريخ – يواجه هذا العالم مشكلة واحدة فى آن واحد ومن ثم يستطيع الجميع مقارنة سلوك الشعوب ببعضها، أدرك الجميع أن أصل الإنسان واحد مهما تعلم وتثقف فجميعنا نبحث عن احتيجاتنا الأساسية من غذاء وأمن بأى طريقة أولا بعيدًا عن احتياجات الآخرين؛ ومن بدأت شعوب دول العالم الثالث والأسواق الناشئة الشعور بقدراتها على المنافسة مع زويها شعوب الدول المتقدمة وأن تتجاوز ذلك الشعور بالطبقية الجنسية والإحساس بالدونية والتأخر وجلد الذات عند مقارنة أنفسهم بأى بلد متطور تكنولوجيا واقتصاديا، لأول مرة أيضا يشعر الأفراد بالمسئولية لدى مجتماعاتهم وقوتهم فى التأثير على الدولة والعالم بأكمله وأن مسئولية الفرد لا تكمن فقط فى أن يحمى نفسه بل أن يحمى من حوله؛ بالطبع سيغير ذلك مفهونا فى الشعور بالمظلومية وعدم الأهمية كما سيغير نظرة الحكومات للشعوب.
أصبح العالم يحتاج الآن لمفهوم جديد مختلف عن الرأسمالية والاشتراكية، فلأول مرة تدرك الحكومات أن التأمين الصحى حق لكل مواطن مقابل وجوده على أرض الوطن لنجد على سبيل المثال أمريكا أصبحت تقوم بعمل اختبار الفيروس دون مقابل لإدراكها أن ذلك الفرد من الممكن أن يهدد مجتمعاً كاملاً.
فمن أيام تلقيت تعليقا لطالبة -درست لها من قبل- عندما علقت انتقدت أن غلاء أسعار المواد المطهرة، فقالت إنها تخضع لنظرية العرض والطلب.. نعم أنها قوانين الاقتصاد التى يجب أن تتغير من قبل الحكومات، أنا لا أدعو إلى الاشتراكية أيضا ففيها ما فيها؛ أنا أدعو إلى عدم قياس المجتمعات ولا مستوى التحضر ولا الأخلاق بالاقتصاد فالاقتصاد وجد لإدارة الندرة فقط لا غير. بالطبع سيظل الاقتصاد هو المسيطر على العالم بعد أن تنقلب الموازين ويظهر للعالم بطل جديد، ولكن ستتغير ثقافة وسلوك الشعوب بشكل سيقلب موازين العالم.
أقوى ما يؤثر على الاقتصاد هو ثقافة المجتمع، وأرى المجتمع المصرى تطورت ثقافته بشكل جيد فى الفترة الحالية وحتى قبل ظهور الكورونا ويمكن أن نرجع هذا لنضوجه فى خلال السنين السابقة. ودليل على أهمية الثقافة هو ما تراكم فى ثقافة الشعوب المتقدمة والمستثمرين الدوليين من عدم ثقة فى الحكومات ولا فى المؤسسات المالية بعد ما حدث فى أزمة 2008 ولذلك نحن الآن بصدد أزمة اقتصادية أعنف. والدليل أنه لا يوجد رد فعل نمطى للمستثمرين فى الآونة الأخيرة اتجاه أى ورقة مالية وحتى صناديق استثمار الذهب المتداولة (Gold ETFs).
ولكى لا أطيل، أرى أن لو توقف الكورونا وظهر العلاج لن ترجع الأمور إلى طبيعتها وكل الدول التى نادت بالعولمة حتى أصبح العالم كله تقريبا يعمل تحت هذه المناداة ستتأثر بالسلب، بالطبع ستتأذى الدول المعتمدة على التصدير بشكل رئيسى ولكن بالنسبة للدول المستوردة ستنقسم إلى نوعين: النوع الأول هى دول تمتلك خامات الإنتاج وعقول بشرية، بالطبع ستستفيد بهذه الفترة وتعتمد على منتجاتها المحلية وتطورها وستتغير ثقافة شعبها، والنوع الآخر، هى دول لا تملك واحدة من الاثنين أو الاثنين معا وستظل تعاني، ستتخطى مصرنا الحبيبة ودول أخرى تلك الأمراض التى أتتنا من العولمة والرأسمالية وحولتنا لمجتمع مادى استهلاكى؛ سنجبر جميعا على الاعتراف بأننا متساويون وأن نردخ لأقل المتع ونستمتع بها، سينخفض معدل طلابتنا للأشياء المادية وكأنها نهاية العالم، سنعلم جميعا أنه لا مجال للعمل بدون الحرص على الآخرين، أنا أعلم يقينا أن مصرنا الحبيبة ستستفيد من هذه الأزمة وتتجاوز تحدياتها وأنصح كل فرد أن يتأمل ويتدبر كل المتغيرات التى حوله ومن أجمل التدبر تأمل لطف الله الخفى واليقين به.
بقلم: أحمد عزالدين
محل مالى واقتصادى
[email protected]