القطاع الصحى بالعالم أجمع فشل فى الاختبار الحقيقى وهو فى رأيى الاختبار الوحيد الذى لم ينجح فيه أحد ولو حتى بدرجة مقبول، لا يجب أن نخلط بين الحلول الاقتصادية والحلول الصحية التى اتخذتها الدول، ولا يجب أن نتخيل أننا مختلفون عن الاخرين، فالكل ترك زمام إدارة الأزمة الصحية فى أيدى رجال الاقتصاد بعد أن فشلت الهيئات الصحية ومراكز البحوث والتطوير والعلماء فى كل شيء من أول التنبؤ بالمرض ووتوقع حجم الأزمة ومروراً بكينونة المرض وانتهاءً بإيجاد العلاج والتطعيم.
الأعداد فى ازدياد فى مصر والعالم أجمع ولا نختلف عن باقى شعوب العالم فى مدى التزامنا بالتباعد الاجتماعى وارتداء الماسك الطبى وخلافه من الأمور الأبسط مثل غسل الأيدى واستهلاك المطهرات، الجميع فى الهم سواء.
كلنا تابعنا مظاهرات فى ألمانيا بسبب المشاكل الاقتصادية، نعم مظاهرات بدون ماسكات ولا تباعد ونفس الشىء شاهدناه فى أمريكا، فلا داعى أبداً للاستمرار فى جلد الذات واتهام الوزارة بل الدولة نفسها بفشلها فى إدارة الأزمة.
أنا لست من المتخصصين فى تلك الأمور «إدارة الأزمات» ولكنى من المتابعين الجيدين لما يحدث بالقطاع الصحى واعتقد أن الدولة تؤدى أداءً رائعاً فى إدارتها للأزمة الصحية وتبعاتها الاقتصادية.
دعونا نراجع وبدقة أداء الوزارة، الوزارة تعاملت مع الحدث وحتى هذه اللحظة باحترافية ممتازة وتم علاج كل المواطنين بالمجان بمستشفيات الدولة «التى لم يدخلها أى من المواطنين فوق المتوسط خلال سنوات عمرة كلها»، فجأة وجد المواطن الفقير والغنى على السواء أن علاجه يتم من خلال أطباء الوزارة ومستشفيات الوزارة وبروتوكولات الوزارة.
دعونا أيضاً نتذكر أداء القطاع الخاص الصحى، فور حدوث الأزمة اختفى نسبة كبيرة من الأطباء واعتزروا عن عياداتهم الخاصة ومستشفياتهم الخاصة وفجأة وجد المواطن البسيط الذى كان يعتمد بنسبة تصل إلى %73 إلى القطاع الخاص لخدمات العيادات الخارجية ونسبة تصل إلى %40 من خدمات العمليات، فجأة كل ذلك تلاشى وبسرعة البرق وبقى أطباء الوزارة ومستشفيات الوزارة وبروتوكولات الوزارة الملاذ الوحيد لمرضى كوفيد.
لقد قابلت عدداً كبيراً من الأطباء المشاركين فى مستشفيات العزل وكلهم وبدون استثناء كانوا ومازالوا يشعرون بالفخر بما يفعلونه بالرغم من المخاطر وبالرغم من قلة المردود المادى، ولهذا فأنى أتفهم شكاوى الأطباء فى السياق العادى للمشاكل التى يعيشها المجتمع ككل، تماما مثل الجنود المعرضين لمخاطر الموت والإصابة بسبب الظروف التى نعيشها كدولة تكافح من أجل شرفها ومكانتها، الأطباء وأنا أتكلم عن أطباء وزارة الصحة الأبطال ولا أتكلم عن القطاع الخاص الصحى والذى يجب أن يعيد حساباته بشدة وأدعى أن المستشفيات العامة الخاصة ستعانى وبشدة من الشرخ الكبير الذى حدث بين الشعب وتلك المستشفيات. انعدام الثقة بين المواطن وبين تلك المستشفيات يحتاج إلى سنوات للإصلاح وبالذات بعد ظهورهم لتقديم الخدمة بأسعار خيالية تفوق قدرات الفئات الأكثر ثراءً بالمجتمع ولا أتكلم عن الفئات المستورة والتى قد تفلس خلال 3-7 أيام من الإقامة بتلك المستشفيات.
الصراخ والهجوم على الدولة فى تلك المرحلة وبالرغم من كل ما تم لن يأتى إلا من مجموعة تكره هذه الدولة بلا شك، فهذا الوقت هو وقت التكاتف بين كل فئات المجتمع، وقت الجد ووقت تقديم التصورات المدروسة لأصحاب القرار وليس نشر الذعر بالمجتمع.
الدولة بدأت بالفعل مشروع طموح جداً منذ سنة 2018 وهو مشروع التأمين الاجتماعى الشامل وإذا أضفنا إليه مشروع قوائم الانتظار وحملة 100 مليون صحة والعديد من المشاريع والتى حققت بالفعل خدمات صحية مهولة وكل من يعمل فى هذا القطاع يعرف ذلك بوضوح.
بالطبع هناك خلل مهول فى مرتبات الكوادر الطبية بكل الفئات من أول أكبر طبيب إلى أصغر إدارى بالمستشفى، ولكننا يجب أن نعترف أن المجتمع نفسه لم يكن أبداً مرحبا بالاستثمار فى هذا القطاع، بل أن كل الاستثمارات أو معظمها قد تم من خلال الأطباء أنفسهم، أما رجال الأعمال والبنوك والمؤسسات، فقد أحجموا جميعا عن الاستثمار فى هذا القطاع الحيوى وفضلوا الاستثمار فى المطاعم والكوفيشوب ولاعبى كرة القدم والسينما والمسارح والفنانين، كل شيء إلا الصحة. إذا نحن نمر بمرحلة تحول كبيرة فى حياة الدولة المصرية، تحول يعيد فكر الدولة نحو الإهتمام بالصحة والتعليم وقد تؤدى إحداث كوفيد – 19 إلى دفع المستثمرين نحو الاستثمار فى القطاع الخدمى الصحى بمصر.
القطاع الخاص المصرى فى مجملة متماسك ويشعر بالمسئولية نحو مرضاة وهو يعانى أزمة اقتصادية وأزمة سيولة ضخمة للغاية وقد تؤدى إلى إفلاس «نعم إفلاس بكل معنى الكلمة» العديد من المستشفيات والمراكز بالرغم من كل ما قامت به الدولة من تسهيلات مؤخرا، إلا أن ما سينقذ تلك المستشفيات هو إعادة عجلة الاقتصاد للدوران مرة أخرى وبأسرع وقت.
أداء الدولة موزون جداً وأداء جزء محدود من القطاع الخاص المصرى يحتاج إلى إعادة نظر وبسرعة. اعتقد أن من أهم التحديات التى نعيشها الآن والتى تتعلق بالأتعاب المهنية للأطباء داخل الحكومة مقارنة بتلك التى يحصل عليها زملاؤهم بالقطاع الخاص والمقارنة ظالمة وصارخة جدا جدا. فأتعاب الأخصائى اليومية بمستشفيات العزل الخاصة تصل إلى نسبة 1: 12 مقارنة بمثيلة بالقطاع الحكومى، مرتب الطبيب بالقطاع الخاص يصل إلى 3500 – 5500 لليوم الواحد والتمريض يصل إلى 1200 – 1500 لليوم الواحد وهو نفس المكافأة الشهرية التى يحصل عليها زملاؤهم بالقطاع الحكومى. كل ما سبق وغيره الكثير، سيحدث ارتباكا كبيرا فى علاقة الطبيب بالوزارة وسيجد هذا الطبيب المكافح أن زميله بالقطاع الخاص يحقق ما لا يمكن لمثله أن يتخيله وهذا الموضوع قد يكون أحد أهم أسباب شكاوى الأطباء حاليا ومستقبلا.
الكل أجمع على مقولة أن الشعوب قد تموت من الفقر أسرع من الموت بكوفيد، ودعونا نتخيل الباعة الجائلين والمطاعم والكوفيشوب ومحلات الأكل وشركات خدمات الطائرات والنقل عموما وشركات التصدير والاستيراد والفنادق والشركات المعتمدة عليها والعديد والعديد من الشركات والقطاعات قد اضيرت تماما، لقد توقفت عجلة الاقتصاد فى مشهد عجيب ولا اتخيل كيف لها أن تدور مرة أخرى وهل سيعود أحد من تلك الشركات للعمل مرة أخرى أم أنهم تلاشوا وانتقلوا إلى خدمات أخرى مختلفة.
معايير جديدة مقابل العودة إلى الحياة بالمعايير القديمة هو الفرق بين الحياة والفوضى، ما مؤكد أننا لن نعود للحياة الطبيعية بالمفهوم التقليدى (وإلا فسنموت من الإصابات) ولكنها ستكون عودة بمقياس جديد يحمل فى طياته فلسفة جديدة بتكاليف جديدة وأسعار جديدة. راجعوا قرار فتح الفنادق والذى عليهم أن يعملوا بطاقة إنتاجية لا تزيد عن %30 وخدمات النقل الجوى بإعداد جديدة للكراسى ونفس الشيء للمواصلات العامة وكراسى الانتظار بالصالات الخدمية والسينما والمسارح، كل ذلك سيخلق سعراً جديداً تماما وسينقل الأعمال لنقطة جديدة تماما من?نقاط التعادل. المعيار الجديد للحياة الجديدة New Norms هو التحدى وهو ما يجب أن نجتهد لدراسته والتعامل معه وتجهيز إعمالنا والمجتمع لاحتواء التكلفة الجديدة.
القطاع الصحى هو الأكثر حاجة لتصميم New Norms معيار جديد لكل الخدمات الصحية والعلاجية. المعيار سيشمل تغيير ضخم لدورة المريض بالمؤسسة الصحية، من أول عدد الحالات التى يتابعها الطبيب، عدد المترددين يوميا بالمستشفى أو بالعيادة، عدد المرضى والأصحاء بصالة الانتظار بالمستشفى أو بالعيادة واستخدامات العلاج عن بعد (بعد تقنينه) ومرورا بجزء من المصروفات الثابتة PPE المتعلقة بحماية الكوادر الطبية والإدارية بالمنشأة وبالتأكيد فإن المصروفات المتغيرة ستتحرك من نسبة لا تتجاوز %40 من إجمالى سعر الخدمة، إلى نسبة قد تصل إلى %6? من مجمل سعر البيع. معايير جديدة لعلاقة عدد الأطباء بالنسبة لأعداد الأسرة ونفس الشيء بالنسبة للتمريض والفنيين، أتوقع أن تسمح الدولة المصرية بإدخال أعضاء جدد لتقديم الخدمات الصحية والعلاجية مثل Physician Assistant مساعد الطبيب وفنى التخدير والعناية المركزة ومساعدى التمريض وسنقوم بتأهيلهم للقيام بدور حيوى فى هذا القطاع، كلى ثقة فى قدرة المجتمع على تجاوز الأزمة وعلى قدرته على احتواء الأسعار الجديدة مادامت مصحوبة بمعايير أفضل للجودة ولحماية الشعب. تذكروا تعويم الجنيه المصرى منذ أقل من 5 سنوات وما تبعه من معايي? سعرية جديدة والتى تم احتواؤها ومرت الأزمة بسلام.
أخيرا هذا وقت التفكير والتدبير والتمعن لتصميم معايير الحياة الجديدة لما بعد كوفيد «وكلنا مؤمنين بأن هذا أيضًا سيمر».
بقلم- خالد سمير؛ رئيس مجلس إدارة تشاور للاستشارات.
