بعد 5 سنوات من جهود التنويع لا يزال النفط يقدم ثلثى الناتج المحلي لـ”السعودية”
في ظاهر الأمور، ليس هناك بلد يخسر أكثر من المملكة العربية السعودية من التحول عن الوقود الأحفوري.
قبل اكتشاف البترول، كانت المملكة موجودة بالكاد كدولة. ثم جاء امتياز التنقيب عن البترول الذي منحه العاهل ابن سعود- الملك عبد العزيز آل سعود- عام 1933 لشركة “ستاندرد أويل أوف كاليفورنيا” بعد أشهر فقط من إعلانه ملكا على أرض لم تُوحد منذ 1000 عام.
وسمحت مدفوعات الامتياز، وعائدات البترول لاحقا، لابن سعود بتعزيز سيطرته عبر منح الرعاية للمجموعات القبلية المتفرقة في شبه الجزيرة، بحسب إلين والد، الزميلة فى مركز الطاقة العالمى التابع للمجلس الأطلسى ومؤرخة المملكة.
وأوضحت والد: “الامتياز البترولي منحه الشرعية اللازمة لجعله حاكما للسعودية. وأصبح من الصعب تصور السعودية دون البترول”.
بعد نحو 5 أعوام من الجهود المبذولة لتنويع الاقتصاد بعيدا عن البترول الخام، لا يزال البترول والإنفاق الحكومي الممول إلى حد كبير منه، يمثل حوالي ثلثي الناتج المحلي الإجمالي.
ويبدو توقع بقاء المملكة في عالم خالٍ من البترول أمراً غير قابل للتصديق، مثل ازدهار سويسرا في عالم خالٍ من البنوك، حسبما ذكر الكاتب ديفيد فيكلينج في مقال نشرته وكالة أنباء “بلومبرج”.
ومع ذلك، قد لا تكون هذه الرؤية المتشائمة صحيحة تماما، خصوصا أن ثراء البلاد الناتج عن الأصول الطبيعية- ليس قائما كلياً على الهيدروكربونات- يمكن أن يغذي صناعات جديدة ويحافظ على الصناعات القائمة مع انخفاض الانبعاثات الكربونية نحو الصفر.
إن احتياطيات المملكة من الفوسفات والنحاس والذهب تتميز بكونها من الطراز العالمي، لكنها لم تُستغل بشكل كافٍ بسبب طريقة مزاحمة البترول الخام لكل شيء آخر.
وفي الوقت نفسه، تعد إمكانات الطاقة الشمسية في المملكة من بين أغنى الإمكانات في العالم، مما يمنحها الفرصة لتكون مركزية في قطاع الهيدروجين الأخضر في المستقبل كما كانت في تجارة البترول القرن الماضي.
وهذا الأمر ينطوي على دروس هامة لمجموعة الدول المصدرة للبترول، التي تنظر إلى العقود القادمة بذعر يمكن فهمه.. لكن لا يجب أن تكون نهاية الوقود الأحفوري بمثابة نهاية للدول التي ازدهرت بفضله.
ومع ذلك، ثمة شيء واحد يجب أخذه بعين الاعتبار، هو أن الانتقال السريع للطاقة لن يعني اختفاء استهلاك البترول تماما في عام 2050.
فقد أظهر تقرير صدر عن الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ في عام 2019 حول المسارات التي يجب إتباعها للحفاظ على درجة الحرارة عند 1.5 درجة مئوية، أن الطلب على الطاقة سينخفض النفط الخام إلى نطاق يتراوح بين 11 و 57 مليون برميل يوميا بحلول عام 2050، مقارنة بالطلب الحالي للسعودية البالغ 8 ملايين برميل يوميا.
ومع انخفاض تكاليف الإنتاج القياسية عند 2.80 دولار فقط للبرميل، فإنه من المرجح أن تكون السعودية واحدة من آخر المنتجين الذين يستمروا في خوض هذه اللعبة.
علاوة على ذلك، يجب العلم أن أنواع البترول المختلفة لا تستخدم كلها في الطاقة، فهناك 10% تقريباً من الإنتاج في العالم- نحو 10 ملايين برميل يوميا- يُخصص للمنتجات غير المحترقة مثل البلاستيك والأسفلت ومواد التشحيم والمواد الكيميائية والأسمدة.
ورغم أن الوقود الهيدروكربوني يطلق ثاني أكسيد الكربون كأثر جانبي حتمي لاحتراقه، فإن المنتجات غير المحترقة تميل إلى إبقاء ذرات الكربون داخل مصفوفاتها الكيميائية، على الأرجح إلى أجل غير مسمى.. لذا قد يصعب استبدال مثل هذه المنتجات بمكافئات غير أحفورية خلال العقود القادمة.
وتتوقع شركة “بريتش بتروليوم” ارتفاع الطلب البترولي بنحو 0.5% سنويا حتى في ظل اتباع سيناريو يحافظ فيه العالم على درجة حرارة عند مستوى أقل من درجتين مئويتين.
وإذا انخفض الطلب على البترول، وانتهى الأمر بالعالم إلى إزالة كميات كبيرة من الكربون من الغلاف الجوي، فثمة دور محتمل آخر للسعودية. فقد فشل احتجاز الكربون وتخزينه حتى الآن في الوفاء بوعده.. لكن إذا نجحت تلك التكنولوجيا، فقد تعطي فرصة جديدة للحياة لحقول البترول السعودية.
ويمكن أن تستخدم تقنية احتجاز وتخزين الكربون بشكل تجاري في الاستخراج المعزز للبترول، حيث يُضخ الغاز في الآبار القديمة لدفع مزيد من البترول الخام إلى السطح.
ومن الجدير بالذكر أن أحد أكبر المواقع العاملة بهذه التقنية يقع الآن في حقل الغوار العملاق بالسعودية.
ولم يتم التحقيق في إمكانات المملكة لهذا الأمر بشكل جيد حتى الآن، فقد وجدت دراسة أجراها المعهد العالمي لاحتجاز وتخزين الكربون عام 2016 إمكانية تخزين بين 5 مليارات و30 مليار طن متري من ثاني أكسيد الكربون تحت الأرض، أي ما يعادل أقل من عام من الانبعاثات الحالية.
ولكن كبار منتجي البترول الذين أجروا تقييمات أكثر تفصيلاً أنتجوا تقديرات أكبر بكثير. فقد تكون الولايات المتحدة وحدها، على سبيل المثال، قادرة على حجز ما يصل إلى 21.2 تريليون طن.
ومن المؤكد أن الرؤية الأكثر طموحاً للمستقبل لن تأمل فقط في إدارة انخفاض البترول، لكن النظر إلى ما هو أبعد من ذلك، والمثير للدهشة أن السعودية لديها مزايا هنا أيضاً.. فعدد قليل من الأماكن في العالم يتمتع بكثافة واتساق ضوء الشمس الذي يسقط على شبه الجزيرة العربية.
وتخطط الدول ذات الإمكانات المماثلة، مثل تشيلي وأستراليا، بالفعل لتطوير قطاع تصدير الطاقة- وهو الهيدروجين- الذي قد يتنافس يوماً ما ويتفوق على البترول نفسه.
وبشكل عام، تعد احتمالية إعادة اختراع دور السعودية كواحدة من أهم مراكز الطاقة العالمية في عالم ما بعد الوقود الأحفوري أمراً كبيراً. فالمشكلة تكمن في كيفية تحقيق ذلك، فالدولة التي تأسست ثروتها وهويتها على البترول الخام ستكافح دائماً مع تراجع البترول، خصوصا أن مئات الملايين من الدولارات تتدفق يومياً إلى خزائن المملكة بفضل صادراتها من الذهب الأسود، وبالتالي فإن إغراء الاستمرار في فعل الشيء نفسه يصبح أمراً لا يقاوم.